بعد مضي عقد تقريباً على بداية الأزمة المالية العالمية والديون الوطنية في الاقتصادات النامية وفي طور النمو تتزايد بشكل ملحوظ، بلغ درجات غير مقبولة. ففي اليابان على سبيل المثال بلغ الدين مقارنة بالناتج المحلي 240 في المئة ، وفي اليونان تجاوز الدين حدود المقبول الى 185 في المئة وفي ايطاليا والبرتغال الديون تتجاوز الـ 120في المئة من الناتج المحلي.
من المؤكّد انّه إذا لم يتمّ اتخاذ إجراءات جذرية كتخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات، سوف يتدهور الوضع اكثر. كذلك على المصارف المركزية اعتماد سياسات نقدية غير عادية لمحاربة أزمة ارتفاع اسعار الفائدة من أدنى مستوياتها. هذا يعني، انّ مدفوعات الفائدة سوف تستهلك حصة متزايدة من الإنفاق الحكومي، الأمر الذي يجعل المال اقل وفرة لتأمين الخدمات العامة واتخاذ خطوات لضمان نمو اقتصادي طويل الأجل، مثل الاستثمار في البنية التحتية والتعليم وغيرهما .
وضع لبنان لا يختلف كثيراً في هذه الأزمة، علماً انّه يحتل المرتبة الثالثة بعد اليابان واليونان، ومع فارق كبير، ان كان من ناحية القدرة الاقتصادية او الدعم الاوروبي لليونان من صندوق النقد الدولي والمصارف الأوروبية، ولأسباب عديدة، وأبرزها الخوف على هذه المصارف من الإنهيار في حال أفلست اليونان ولم تستطع الوفاء بوعودها .
لبنان كما هو ظاهر، يواجه أزمتين: أزمة سياسية داخلية، وهي عدم ثقه الشعب بمسؤوليه وسياساتهم، والخطوات الفاشلة التي يتخذونها في تحضير الموازنة، وأزمة خارجية تتمثل بعدم ثقة المؤسسات الدولية والدول المانحة، لاسيما المشاركة في «سيدر»، في جدّية لبنان للسير بإصلاحات تساعده على الخروج من محنته. وتبدو الامور لغاية الآن واضحة. وتخفيض العجز جاء دون المرجو، لاسيما في غياب تنسيق المسؤولين في ما بينهم، وفي غياب لجنة اقتصادية تضع خطة موحّدة للخروج من النفق. لذلك، يبدو النفق طويلاً وتبدو الأمور ماضية الى جمود لا اكثر، مع موازنة ما زالت الفوائد تبتلع القسم الاكبر منها ورواتب القطاع العام القسم الآخر.
وكما هو معلوم، هناك طريقتان لتقليل نسبة الديون الى الناتج المحلي الإجمالي. الأولى تتمثل في تخفيض حجم العجز في الموازنة عن طريق خفض الإنفاق او زيادة الإيرادات. والاخرى تتمثل في توسيع حجم الاقتصاد. والوضع المثالي، هو ان تسعى الحكومات الى خفض العجز وتحويله الى فوائض أولية ( اي زيادة الواردات الضريبية على الإنفاق ) بشكل لا يتعارض مع النمو، لاسيما انّ السياسات الاقتصادية إذا ما كانت تتعارض مع النمو فستؤدي الى نتائج عكسية، أي تراجع الناتج المحلي الإجمالي وزيادة نسبة الدين الى الناتج، وصولاً الى عجز إضافي.
قد يكون السؤال للمعنيين، ما هي السياسات المرجّحة التي تؤدي الى انخفاض نسبة الدين الى الناتج المحلي، لاسيما انّ هناك دراسات عدة جرت على الأقل منذ بداية التسعينيات- وهذه الدراسات أظهرت انّ التحوّلات في السياسة المالية تأتي عادة في شكل خطط لسنوات متقدمة تعتمدها الحكومات بهدف خفض الدين الى الناتج المحلي خلال فترة من الزمن- ويتمّ ذلك عادة من ثلاث الى اربع سنوات. وبعد تحضير هذه الخطط نرى انّ تقسيمها يكون في فئتين: خطط الإنفاق وتتكوّن أساساً من تخفيضات الإنفاق والخطط الضريبية، والتي تركّز على رفع الضرائب تدريجياً- واقتصادياً. هذه الامور تعاكس النظرية «الكينزية» التي تفترض انّ خفض الإنفاق هو اكثر ضرراً على الاقتصاد من زيادة الضرائب.
في الواقع، انّ دراسة الموازنة اللبنانية ضربت بعرض الحائط جميع النظريات الاقتصادية، واكتفت بقشور صغيرة لم تشكّل سوى تخفيف في العجز لا يتجاوز الـ 4 %، وطالت قطاعات حياتية اكثر منها قطاعات غير منتجة وغير قادرة على وقف الهدر والنهب وامتصاص اموال الدولة. ويبدو انّ لكل وزيرأجندة -عمل حزبه او وزارته. وكل تابع لشخص معيّن هو الزعيم والمستفيد الأكبر من وضعية الحال هذه. لذلك أتت الموازنة مخيّبة للآمال وليست على قدر المشكلة الكبرى التي يواجهها الوطن.
وإذا ما نظرنا الى الخبرة الدولية في هذا المجال، فانّ الخطط التقشفية من ناحية الإنفاق، والتي اعتمدتها بعض الدول بعد الأزمة المالية العالمية، جاءت نتائجها افضل من باقي الدول التي اعتمدت خطة تقشفية ضريبية، والتي تعاني ركوداً أعمق من الاولى.
على سبيل المثال لا الحصر، المملكة المتحدة، والتي كان الأداء الاقتصادي فيها اقوى بكثير مما توقّعه صندوق النقد الدولي، تمثلت خطتها بسياسة خفض الانفاق ( الدعم والمعاشات التقاعدية وسياسات أكثر تعقيداً على أصحاب المعاشات والنخبة)، كما سبق وذكرنا. وجاءت النتائج النمو في المملكة اكثر من معدل النمو الأوروبي والزيادة في الاستثمار. ومع تراجع 21 % الى زيادة 6 %. والتفسيرات الممكنة لهذه النتائج قد يكون الفارق بالسياسات التي تواكب الضرائب، والإنفاق، وقد تكون اهم هذه السياسات المالية
حسب Guajardo and Pescator انّ الاستجابة في السياسات النقدية مسؤولة الى حد كبير عن الآثار المختلفة والمتأتية من الضرائب او الإنفاق. والسبب الثاني قد يكون سلوك سعر الصرف. إذ انّ التصحيح المالي قد يكون أقل ضرراً، اذا ما سبقه اي تخفيض لقيمة العملة، مما يجعل الصادرات اكثر قدرة على المنافسة ودعم النمو. والسبب الاخير، يشمل تحرير المنتج واسواق العمل. أضف الى ذلك عامل الثقة والتوقعات الاقتصادية.
خلاصة القول، انّ خفض نسبة الدين الى الناتج المحلي الإجمالي يعتمد الى حد كبير على كيفية تصحيح العجز في الموازنة وما السياسات المتعبة وانعكاساتها. لانّ أي تخفيض في العجز قد يأتي نتيجة زيادة الضرائب ما يؤدي حتماً الى ارتفاع نسبه الدين الى الناتج وعدم تراجعه.
لذلك، وللأسف، نراهم يتّبعون سياسة عشوائية ومنتقاة لم تمسّ بهم شخصياً، وطالت اموراً بديهية دون الولوج في جوهر المشكلة ومحاسبة أصحابها. وهكذا جاءت الموازنة عقيمة مجتزأة غير مدروسة، لم تأخذ في الاعتبار خبرات الدول في هذا المجال. والمؤكّد انها لم تعتمد نهج اي مدرسة اقتصادية حاولت معالجة هذه المشكلة.