يتسابق عدد كبير من الوسطاء للبحث عن طريقة أو مخرج لإعادة النظام الإيراني إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، من دون أن يأخذ ذلك شكل الرضوخ الواضح والمعلن للشروط الـ12 التي سبق أن حددتها الإدارة الأميركية.
في غضون ذلك، تستمرّ العقوبات الأميركية في الضغط الخانق تماماً، على الاقتصاد الإيراني، خصوصاً الآن، بعدما فوجِئَت طهران بأنه حتى تركيا أوقفت استيراد النفط منها، رغم أنها لعبت دوراً حيوياً في الحقبة الماضية في الالتفاف على عقوبات باراك أوباما، عبر ما عُرِف في حينه بـ«المبادلة بالذهب».
الوسطاء الذين دخلوا على الخط كثيرون، لم يعد الأمر يتوقف على مساعي عُمان وزيارة الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي الأخيرة إلى طهران، من منطلق أن عمان لعبت دور الردهة الخلفية للمفاوضات السرية، التي استمرّت ثلاثة أعوام، وانتهت بتوقيع الاتفاق النووي مع باراك أوباما عام 2015، الآن يدخل اليابانيون على الخط عندما يَعِد رئيس الوزراء شينزو آبي الرئيس دونالد ترمب بالذهاب إلى إيران للتوسط، ربما لأن اليابان مستورد مهم للنفط الإيراني وأوقفته الآن!
كان لافتاً جداً أن يعلن مصدر في الخارجية البريطانية أن الوزير جيريمي هنت تحدّث هاتفياً مع نظيره العُماني، وطلب إليه التحرك في اتجاه طهران للتهدئة، وقد ترافق هذا مع تسريبات نشرتها الصحف الأميركية بأن وزير الخارجية مايك بومبيو أجرى اتصالاً مشابهاً مع بن علوي، عندما كان ترمب مجتمعاً في البيت الأبيض مع الرئيس السويسري أولى ماورر، وأكثر من ذلك أنه زوّده برقم هاتفي خاص، وطلب منه تمريره للإيرانيين، وعلى خلفية كل هذا فهم أن خامنئي الذي يقول إن الحرب لن تقع يصف المفاوضات بأنها مثل «السم الزعاف»؛ أولاً لأنها لن تتم إلا تحت سقف الشروط الـ12 التي ستعيد طهران إلى حجمها الطبيعي، وثانياً لأنها تذكر بقول الخميني عام 1988!
ويبدو أن العراقيين دخلوا على الخط بعد زيارة محمد جواد ظريف إلى بغداد، وكان لافتاً جداً أن يتحدث نظيره العراقي محمد عبد الحكيم عن جولة خليجية سيقوم بها، ولا تهدف فقط إلى البحث في مسألة العقوبات الأميركية، بل تحاول خلق جوّ من التفاهم والتعاون بين دول المنطقة، وكان مفاجئاً أن يبدو ظريف أكثر حماسة من الحكيم حيال الحديث عن خلق تعاون إقليمي وتفاهم وعقد معاهدات عدم اعتداء بين إيران ودول الخليج!
من مصلحة النظام الإيراني أن يوحي بأن واشنطن هي التي تتراجع عن العقوبات، وليس هو الذي يصرخ وجعاً من هذه العقوبات، ولهذا كان مفهوماً تماماً لماذا يقول كيوان خسروي باسم مجلس الأمن القومي الإيراني قبل أيام، إن عدداً من المسؤولين من البلدان الأخرى زاروا طهران كمبعوثين من قبل واشنطن، وإن إيران لن تتفاوض ما لم تتغير «السلوكيات»، فيما بدا ردّاً مثيراً لسخرية المعلقين الأميركيين، لأنه يحاول الرد على شرط ترمب الذي كرره دائماً، وهو أنه يطالب إيران بتغيير سلوكها ولا يسعى إلى تغيير نظامها!
في سياق الوساطات، برزت أيضاً محاولة ألمانية، عندما تحدث موقع «دويتشه فيله» (المتحدث بالفارسية) عن مساعٍ تبذلها برلين للحد من التصعيد بين إيران وأميركا، ولهذا أوفدت الحكومة الألمانية مدير الشؤون السياسية في الخارجية ينس بلوتر في 23 مايو (أيار)، إلى طهران، للبحث عن الطرق التي يمكن أن تفضي إلى تنفيس الاحتقان المتصاعد!
السؤال الجوهري الذي يطرحه المراقب حيال هذه التطورات: لماذا يذهب الوسطاء دائماً إلى طهران ولا يذهبون إلى واشنطن؟
طبعاً الجواب واضح ومعروف: لأن التغيير مطلوب من طهران، وليس من الولايات المتحدة، وأن هذه الأخيرة قادرة في النهاية على دفع الإيرانيين إلى طاولة التفاوض على اتفاق جديد يكون أكثر إلزاماً وضبطاً من الاتفاق الذي ألغاه ترمب، خصوصاً لجهة سياسات التدخل الخارجية السلبية المزعزعة للاستقرار والأمن في المنطقة، التي تدعم الإرهاب وتغذيه، كما تقول واشنطن!
يعرف الرئيس ترمب ومستشار الأمن القومي جون بولتون أن ضيق النظام الإيراني يزداد، نتيجة العقوبات التي جعلت العملة الإيرانية تخسر نسبة ما يزيد على 60 في المائة من قيمتها أمام الدولار، وتردد أخيراً أنه بدأ العمل في إيران بتوزيع البونات للحصول على الغذاء، ولهذا مثلاً يقرأ الخبراء في واشنطن موقف المرشد علي خامنئي، عندما يتنصّل من مسؤولية الاتفاق النووي، ويلوم على ذلك الرئيس حسن روحاني، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، متهماً إياهما بالفشل في تنفيذ أوامره، على قاعدة أن هذا يمكن أن يشكّل في وقت من الأوقات تمهيداً لإيجاد مدخل للتراجع عن هذا الاتفاق الذي يتحمَّل غيره مسؤولية التوصل إليه، بما قد يفتح الأبواب على السعي إلى اتفاق جديد!
بعد الهجوم الذي استهدف أربع ناقلات في 12 مايو الحالي، بميناء الفجيرة، بدأت حاملة الطائرات «أبراهام لينكولن» عمليات تحليق جوي تكتيكي على مدار الساعة سمّاه البنتاغون «تحليقاً رادعاً»، ومنذ ذلك الوقت، ورغم أن إيران حاولت أن تتهم دولة ثالثة بتدبير الاعتداء، بدا أن التحركات المدرعة المتقابلة بين الأميركيين غرب العراق والإيرانيين في جنوبه الشرقي، لن تخرج على نطاق سياسة العض على الأصابع، التي يبدو أن تؤلم النظام الإيراني عميقاً، والدليل قراءة تصريحات ظريف، الذي كرر في بغداد أكثر من مرة أن بلاده ليست راغبة في التصعيد «ونحن لا نريد تصعيداً عسكرياً، ومستعدون للتعامل مع أي مبادرة لخفضه».
كذلك يقرأ الخبراء بعناية دعوة روحاني، بعد أيام من تصريح خامنئي، مجدداً إلى تنظيم استفتاء حول البرنامج النووي لبلاده، مذكراً بأن المادة 59 من الدستور تجيز ذلك، وأنه سبق أن طرح الفكرة على خامنئي عام 2004، مضيفاً أن الأخير وافق عليها ولكنها لم تُنفّذ، معتبراً بالحرف أن «هذا التصويت يمكن أن يكون حلاً في أي وقت»، خصوصاً عندما يذكّر ظريف بفتوى لخامنئي تحرم النووي!
على خلفية كل هذا، يجب التوقف أمام قول ترمب، يوم الاثنين الماضي، بعد لقائه مع شينزو آبي: «أعتقد فعلاً أننا سنبرم اتفاقاً، وأعتقد أن طهران لديها الرغبة في الحوار، وإذا رغبوا في الحوار فنحن راغبون أيضاً»، وكرر ترمب أنه لا يسعى إلى تغيير النظام ولا إلى إيذاء إيران أبداً بل إلى تغيير سلوكها، وأنه يعرف العديد من الأشخاص في إيران، وأنهم رائعون، وأن إيران لديها الفرصة لأن تكون بلداً رائعاً مع القيادة نفسها!
طبعاً الردود الإيرانية حتى الآن أن «الحرس الثوري» قادر على إغراق السفن الأميركية، وأن التفاوض مع أميركا مرفوض وسمّ زعاف، لكن العقوبات تضغط أكثر فأكثر، ولم يكن ترمب ليذهب إلى ما يشبه مغازلة إيران، لو لم يكن يعرف تماماً أن ما لم تفعله الحرب تفعله العقوبات وأقسى، والتحدي هو إيجاد مخرج للعودة إلى التفاوض بطريقة لا تذكّر خامنئي بكأس سم الخميني، ويعتقد كثير من الخبراء أن التصريحات المتناقضة، تصعيداً وتبريداً بين الطرفين، ليست إلا تغطية للبحث المحموم عن مخرج للعودة إلى التفاوض، ما لم تكن القيادة الإيرانية تظن فعلاً أن في وسعها الصمود مراهنة في انتظار خروج ترمب من البيت الأبيض!