يبقى مشروع الموازنة للنصف الثاني من العام الحالي من وجهة نظر عدد من الوزراء في إطار «إعلان نيات» ما لم يقترن بإجراءات عملية لخفض العجز ومكافحة الفساد وتحقيق الإصلاحات الإدارية لئلا تبقى الموازنة حبراً على ورق بدلاً من التعامل معها على أنها واحدة من الموازنات الاستثنائية في تاريخ لبنان التي يُفترض أن تكون على قياس مؤتمر «سيدر» لمساعدة البلد بالنهوض من أزماته الاقتصادية.
ومع أن مصير الموازنة يتوقّف على رد فعل النواب في الجلسات المحدّدة لمناقشتها والتصديق عليها فإنه يشكّل في مطلق الأحوال تحدّياً للحكومة والبرلمان في آن معاً لاختبار مدى الانسجام بينهما؛ خصوصاً أن تركيبة المجلس النيابي هي نسخة طبق الأصل عن الحكومة، وبالتالي ستجد بعض الكتل النيابية نفسها محرجة في حال لم تلتزم بتأييدها للموازنة في مجلس الوزراء، وقررت أن تفتح على حسابها كما كان يحصل خلال حقبة الوصاية السورية على لبنان.
إلا أن تأمين التناغم بين الحكومة والبرلمان حول العناوين الرئيسة في الموازنة قد يكون مطلوباً، لكن الأهم يبقى كما يقول عدد من الوزراء في تأمين الواردات المطلوبة لخفض العجز لئلا تبقى الأرقام التي أدرجتها الحكومة في صلب الموازنة غير قابلة للصرف.
ويؤكد الوزراء لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة حشرت نفسها عندما شدّدت على ضبط الحدود لمنع التهريب المنظّم من سوريا إلى لبنان والذي يتجاوز تهريب شاحنة محملة بالخضار أو البيض إلى وضع اليد على المعابر غير الشرعية التي تُستخدم لتهريب الحديد والمعادن الصلبة والدخان الأجنبي والمشروبات الروحية والتنباك العجمي والأدوية، مع أنه لا اتفاق بين وزارتي الصحة في لبنان وسوريا حول السماح بالترويج لهذه الأدوية، إضافة إلى أجهزة الهواتف الجوالة في ضوء وجود دراسة لدى كبار المسؤولين في بيروت بأن لبنان يستهلك سنوياً أكثر من 200 ألف جهاز خلوي وأن معظمها يباع في السوق اللبناني بصورة غير شرعية.
ويكشف الوزراء أنفسهم بأن معظم البضائع المهرّبة إلى لبنان تتم عبر مرفأ طرطوس وأن جهات لبنانية وسوريا نافذة تتولى تأمين شحنها وإيصالها إلى بيروت. ويؤكد هؤلاء وجود هذه المعابر في البقاعين الشمالي والشرقي المحاذيين للحدود السورية.
ويسأل هؤلاء الوزراء عن قدرة الدولة في ضرب مافيات التهريب؛ خصوصاً أنه لم يسبق أن ضبطت الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة التهريب شاحنات محمّلة بمواد من غير الخضار والفاكهة، ويرون أن هناك ضرورة لرفع الغطاء السياسي عن المهربين؛ خصوصاً الذين يستخدمون المعابر الواقعة بين القصير السورية والجرود اللبنانية في البقاع؟ كما يسأل الوزراء عن الخطة التي أعدتها الدولة لمكافحة التهريب لزيادة نسبة الواردات التي تُسهم في خفض العجز، لأن لا إمكانية لإنجاح أي خطة تقوم على الأمن بالتراضي بين قوى الأمر الواقع والمجموعات التابعة للأجهزة الأمنية الشرعية؟
ناهيك من أن هناك معابر مخصّصة لـ«حزب الله» وتتّسم بطابع أمني ويستخدمها في توفير التموين لمجموعاته المشاركة في القتال في سوريا إلى جانب الرئيس بشار الأسد، وأيضاً في تبديلها من وقت لآخر في ظل عدم تدخّل الدولة اللبنانية فيها نظراً لغياب أي وجود أمني على الأقل في المعابر الواقعة في داخل الحدود اللبنانية.
كما أنه سبق لوزارة المال أن أضافت ضرائب جديدة على الدخان الأجنبي والمشروبات الروحية بذريعة أنها ضرورية لتوفير موارد مالية جديدة لتغطية النفقات المترتبة على إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لكنها فوجئت باعتراف أكثر من وزير بأن الموارد المرجوّة من زيادة الضرائب على هذه الأصناف تراجعت إلى ما دون ما كانت عليه قبل إقرار السلسلة.
لذلك، فإن ضبط الحدود لمنع التهريب لا يقوم على تدابير أُحادية تتخذها الحكومة اللبنانية وإنما تحتاج إلى تفاهم مع النظام في سوريا في ظل تعذُّر ترسيم الحدود بين البلدين ووجود مناطق متداخلة ما زالت موضع خلاف وكانت شُكّلت سابقاً لجنة لبنانية لمعالجة هذه المشكلة لكنها سرعان ما جمّدت تحركها بعد أن امتنعت دمشق عن تشكيل لجان مشتركة للبحث في ترسيم الحدود مع أن الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية توقّف عند ترسيم الحدود من دون أن يترافق مع خطوات عملية في اتجاه سوريا.
وعليه فإن النظام في سوريا ليس في وارد القبول بترسيم الحدود بين البلدين وأن الرئيس الأسد شخصياً كان اشترط أن يبدأ الترسيم من مزارع شبعا المحتلة، وبعدها لكل حادث حديث، ما يعني أن دمشق اتخذت قرارها بترحيل الترسيم إلى أجل غير مسمّى.
لكن ما جرى في الأيام الأخيرة بقبول لبنان الوساطة التي يقوم بها مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد لعله يتمكّن من الوصول إلى صيغة لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، أثار علامة استفهام من جراء استثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من عملية الترسيم؛ خصوصاً أنه قوبل بصمت من الأطراف الأعضاء في محور الممانعة وبعض الجهات الرسمية التي كانت سارعت إلى تخوين رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط على خلفية قوله إن ملكية المزارع لبنانية لكنها تخضع للسيادة السورية.
وفي هذا السياق، قال مصدر في «التقدّمي» لـ«الشرق الأوسط» إن جنبلاط كان على حق عندما نصح بأن يصار إلى إبرام اتفاق مكتوب بين بيروت ودمشق تؤكد فيه الأخيرة أن المزارع لبنانية، وهذا ما يساعد على إخراجها من مستلزمات القرار 338 الذي كان وراء نشر مراقبين دوليين بين سوريا وإسرائيل بعد حرب تشرين 1973.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن هناك محميات تتولى تأمين تهريب البضائع من سوريا إلى لبنان، وهذا ما يشكّل إحراجاً للحكومة ما لم تحزم أمرها وتكلّف القوى الأمنية بدهم أوكارها بدلاً من أن تقتصر عمليات الدهم على تهريب الخضار، إضافة إلى ضرورة تكليف وزراء ممن ينتمون إلى محور الممانعة ومعهم وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي التواصل مع النظام في سوريا لتأمين الغطاء السياسي للتدابير التي تسهم في مكافحة التهريب.