على طريقة رجال الأعمال المتمرسين في فن الصفقات والنفس الطويل يستخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكبار أعوانه، لعبة البالونات الملونة المتناقضة المتعاقبة لإرباك الخصم وحمله على الرضوخ في النهاية.
فهناك نوعان من الهواء الذي يهبّ من واشنطن على النظام الإيراني، أحدهما بارد شديد البرودة، والآخر ساخن شديد السخونة، ويتعاقبان دون توقف.
فمساء يطلق الرئيس الأميركي ترامب تصريحات مهدئة مُليِّنة يَظهر فيها مُهادنا وميالا للمصالحة، ثم في صباح اليوم التالي يطلق مستشاره للأمن القومي، جون بولتن، أو رئيس أركان جيوشه، جوزيف دانفورد، أو وزير خارجيته، مايك بومبيو، أو وزير دفاعه بالإنابة، باتريك شاناهان، تصريحات نارية استفزازية مجلجلة كالمتفجرات والمفخخات لا توحي إلا بالعزم الأكيد والقريب على هجوم مباغت تشنه الجيوش الأميركية على مراكز حيوية إيرانية داخلية وخارجية يعتقد الأميركيون بأنها تشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي في المنطقة والعالم.
أما المرشد الأعلى علي خامنئي وأعوانه فمحصورون في الزاوية، لا خيار لهم سوى الصبر والقلق والترقب، وسوى التهديد والوعيد تارة، والتلويح بغصن الزيتون تارة أخرى.
أما الوهم الذي يغرقون فيه ويجعلهم يعلّقون أهمية بالغة على استمرار المناوشات الكلامية، دون مواجهة حقيقية، قدر الإمكان، فما تبقى من مدة رئاسة ترامب، آملين، بل واثقين من هزيمته في الانتخابات القادمة، ومجيء رئيس “ديمقراطي” جديد يعيد مياهَهم ومياهَه إلى مجاريها الماضية.
وهذا، دون شك، دليل أكيد على قصر نظر، لسببين. الأول أنْ لا إشارات، إلى حد الآن، تدل على وجود مرشح ديمقراطي قوي يشكل خطرا جديا وحقيقيا على رئاسة ترامب.
يضاف إلى ذلك أن الناخب الأميركي، كما هو معروف، يضع عقله في جيبه أيام الانتخاب. وترامب ملأه له بالدولارات، وأتاح لملايين العاطلين فرص العمل، وأغرى شركات أميركية كبرى بالعودة من الخارج وتشغيل مصانعها من جديد، الأمر الذي سيوفر المزيد من فرص العمل.
والثاني أن أميركا اليوم تكاد تكون أميركا واحدة لا أميركتين في ما يتعلق بأمن إسرائيل. وترامب أفلح في تحويل عقوباته وحشوده العسكرية غير المسبوقة لحصار إيران إلى دفاع عن ذلك الأمن الذي يوجب على الأميركان، جمهوريين وديمقراطيين، منع إيران المدانة بالإرهاب من امتلاك سلاح نووي يشكل تهديدا جديا لأمن إسرائيل ولمصالح أميركا الحيوية في المنطقة، وربما في العالم.
وعلى هذا أصبحت حروب ترامب الاقتصادية مع دول الخارج، ومنها، وفي مقدمتها، النظام الإيراني، مصلحة قومية عليا لن يجرؤ رئيس يأتي بعده، حتى لو كان باراك أوباما نفسه،على تغييرها بسهولة ويسر. وقد يستغرق ذلك، إن أراد، زمنا أطول من مدة وجوده في الرئاسة، وهو ما لن يحقق للنظام الإيراني ذلك الحلم البعيد.
وكان المتوقع، لو كان المرشد الأعلى وأعوانه ومستشاروه أكثر واقعية وعقلانية وحكمة وشجاعة، أن يحزموا أمرهم ويقبلوا المُر قبل أن يُفرض عليهم الأمَرُّ، عاجلا أم آجلا، ويطيروا إلى واشنطن للتفاوض مع رئيس الأمر الواقع، محاولين إقناعه بأخذ العنب وعدم قتل الناطور.
والظاهر أنهم لم يقرأوا الرسالة التي رفعها إليه أربعون نائبا من الديمقراطيين والجمهوريين، والتي يطالبونه فيها بالقضاء على تنظيمات الإرهاب، وبإجبار إيران على وقف نشاطاتها المزعزعة للأمن الإقليمي، وبتحصين التفوق الإسرائيلي، وحماية الحلفاء الخليجيين، والتي يؤيدون فيها التطبيق الكامل للعقوبات المسموح بها في قانون مكافحة خصوم أميركا.
خلاصة القول، إن ترامب ماض في ذبح نظام الملالي على البارد. فهو لا يكف عن إعلان عدم رغبته في الحرب، واستعداده للحوار، وطلبه وساطات دولية لتحقيق ذلك، وتسريبه رقم هاتفه، ولكن مع بقاء العقوبات المشددة الفاعلة التي بدأت تؤتي أكلها، ومضاعفة سياسة الخنق، في انتظار الأمل المنشود.
وهذا هو آخر ما قاله المرشد الأعلى علي خامنئي في لقائه الأخير بقادته العسكريين مؤخرا: “يتوهم البعض بأننا قد حوصرنا، سنجعلهم يتمرغون في الأوحال”.
وها نحن منتظرون.