تحتاج المجموعات، في المجتمعات التعددية إلى أساطير مؤسسة، تعلن عبرها مشاركتها في الكيان التعددي، وتحدد بها موقعها بالنسبة للمكونات الأخرى.
أسطورة الموارنة أنهم صناع الكيان اللبناني، الذي ولد في كنف البطريرك إلياس الحويك في مؤتمر فرساي مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية... وهم بصلاتهم بالفرنسيين خاصة والغرب عموماً، صناع حداثة ما، عبر الإرساليات والجامعات وتطوير بنى رأسمالية حديثة مصرفية وغير مصرفية.
ثم، بالشراكة مع الموارنة، بنى السُنة أسطورة انتمائهم للكيان، بأنهم أحد قطبي استقلاله عن الفرنسيين عام 1943، ونجحوا على الدوام في الإبقاء على هذا الجذر التأسيسي لعلاقاتهم النهائية بالكيان اللبناني، بالتجاور مع الأهواء الناصرية والعراقية والفلسطينية شديدة الثراء في الوسط السني اللبناني.
الأسطورة الدرزية سابقة في لبنانويتها على ولادة لبنان الكبير بنحو ثلاثة قرون، حين زرع الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير بذرة استقلال نسبي للكيان اللبناني الحالي، وخلق «هوية» تعددية جسرت بين المسيحيين والسُنة والدروز، وظلت حتى اليوم هي الفكرة العميقة لمنطق الدساتير التعايشية التي عرفها لبنان، رغم انتكاستها الأولى عام 1846 والثانية الأكبر عام 1860. ونجح لفترة طويلة في أن يوازن بين ارتباطه بالدولة العثمانية وبين تحالفاته الأوروبية (توسكانا وإسبانيا) وبابوية روما التي استثمرها في الحداثة اللبنانية الأولى التي أحد عناوينها إنشاء أول مطبعة في الشرق الأوسط في دير مار قزحيا الماروني عام 1585، وجعلها إرثاً بنى عليه الموارنة لاحقاً حداثة لبنان الكبير.
أما الشيعة فتأخروا كثيراً في ابتكار أسطورة تأسيسية لعلاقتهم بالكيان، حيث إن الهوية الشيعية السياسية لم تبدأ بالتبلور كهوية مستقلة إلا منذ منتصف الستينات مع الإمام موسى الصدر، بالتزامن مع بدايات اضطراب الهوية اللبنانية وتفككها والانحدار بمكوناتها نحو الحرب الأهلية. ولم تأخذ الهوية الشيعية السياسية شكلها إلا في سياق حربي، صراعي قلق، انعكس قلقاً على الهوية الشيعية نفسها ولم يسمح لها بمراكمة مساهمة بناءة في تاريخ لبنان.
الأسطورة الشيعية ظلت في نطاق الذاكرة الجغرافية، وبلا أي تجربة سياسية تذكر، وتوزعت على مكانين: جبل عامل جنوب لبنان، حيث الوجود الشيعي الأرسخ، وكسروان في قلب جبل لبنان، من حيث أُخرج الشيعة وظل خروجهم جرحاً في الذاكرة استعاده في يوم من أيام الحرب الأهلية، الناشط الشاب في «حزب الله» حسن نصر الله!
فيما بعد حاول بعض المؤرخين بالكثير من المبالغة والقليل من النجاح رفع مؤتمر وادي الحجير إلى مصاف اللحظة التأسيسية للشيعة، وهو مؤتمر لأعيان الطائفة وبعض الشبيبة، عشية ولادة لبنان الكبير 1920، لكن المؤتمر بقي ضمن سياق الموقف الإسلامي العام الراغب في الاستقلال عن فرنسا، كما سيبقى الموقف الشيعي حتى لحظة وصول الإمام الصدر، جزءاً من الموقف الذي يقرره إما السُنة أو المسيحيون. كان هناك سياسيون شيعة، من دون أن تكون هناك سياسة شيعية بحسب ملاحظة دقيقة لحازم صاغية.
جاءت اللحظة التأسيسية للأسطورة الشيعية عام 2000 يوم انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.
غير أن من شروط «الوطنيات الاختيارية» أي التعاقد الاجتماعي بين مكونات مختلفة على القبول بكيان ما كدولة وكوطن، هو اعتراف كل مكون بأسطورة الآخر. ومدماك الاعتراف هذا، ألا تتحول الأسطورة إلى أداة هيمنة على الآخرين، وهو ما تجنبته التجربة العبقرية للأمير فخر الدين الكبير، وأنتجت أكثر من قرنين من العيش التعددي في كنف إمارته.
بخلاف ذلك، فإن تجربة التحرير وبدل أن تدخل في هذا الرصيد، باغتتها التطورات المحيطة بلبنان منذ لحظة إسقاط صدام حسين في العراق الذي هو بمثابة «انهيار سد مأرب» سياسي في وجه النفوذ الإيراني، واستعار الهوية السياسية الشيعية على مستوى الإقليم المشرقي برمته. تلا ذلك اغتيال رفيق الحريري ثم حرب يوليو (تموز) 2006 ثم اجتياح بيروت وجبل لبنان عام 2008 ثم إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2010 رغم فوزه مع حلفائه بالانتخابات النيابية قبل أشهر. صارت المقاومة أداة عدوان واحتلال واستتباع.
في هذه المناخات، خسر «حزب الله» والشيعة اعتراف الآخرين بأسطورتهم، وكما هي الحال دوماً يعود المتضررون إلى التاريخ الفرعي للأسطورة وهو في الغالب تاريخ أدق.
الحقيقة أن إسرائيل لم تنسحب من لبنان بسبب المقاومة، أو ليس بسببها فقط. والحقيقة أن رئيس وزراء في إسرائيل هو إيهود باراك خاض انتخابات برلمانية وكسبها تحت عنوان الانسحاب من لبنان. والحقيقة أن «حزب الله» كان يحضّر مجموعاته في الجنوب لشن عمليات نوعية واستعراضية تظهر وكأن إسرائيل انسحبت تحت الرصاص، لكن انكشافها دفع باراك لأن يأمر جنوده بانسحاب فوري وخلال 24 ساعة لسحب بساط الاستعراض من تحت أقدام «حزب الله». والحقيقة أيضاً وأيضاً أن الانسحاب متفاهم عليه مع لبنان عبر مفاوضات دامت أشهراً، وكان عنوانها الأمن بالمعنى التكتيكي للكلمة.
كل ذلك كان يمكن طمسه تحت عنوان المقاومة لو أن المقاومة بقيت في لبنان. لكنها والحال هي الحال المعروفة، خسرت أسطورتها وستنتظر طويلاً طويلاً قبل أن تتاح لها فرصة بناء أسطورة جديدة تعيد الوصل بين الشيعة والكيان اللبناني.