حاز صفير على لقب «بطريرك الاستقلال الثاني» بامتياز، وقاد بجدارة معركة إخراج الجيش السوري من لبنان، فتحلّى بالحكمة والجرأة وعرف اين يرفع السقف وكيف يمدّ الجسور بين القوى المسيحية ومع القوى الإسلامية وصولاً الى كسر الحواجز والتمهيد لـ»ثورة الأرز»، ولولا وجود هذا الرجل في بكركي لكانت الأحداث اتخذت منحىً مختلفاً بالتأكيد، اذ ليس تفصيلاً ان يتولى قيادة معركة التحرير وإدارتها وإنجاز المهمة.
وبعد خروج الجيش السوري دخل لبنان في نزاع جديد عنوانه سلاح «حزب الله»، وانقسام جديد اتخذ الطابع العنفي مع اغتيالات وتصفيات طاولت مروحة من شخصيات استقلالية، وبدا واضحاً انّ حسم هذا النزاع مستحيل لجهة انّ «حزب الله» غير قادر على حكم لبنان منفرداً، و١٤ آذار غير قادرة على نزع سلاح الحزب بالقوة، فيما هو في غير وارد تسليمه، وبالتالي دخل لبنان في «ستاتيكو» جديد يتقاطع مع «الستاتيكو» الذي سبقه في استمرار فقدان السيادة، ويتمايز عنه برفع الاستهداف عن المكوّن المسيحي والدخول في مساكنة بين مشروعين لا يمكن حسمها إلّا تبعاً للتطورات الدولية والإقليمية.
وإذا كان الخروج السوري من لبنان أدّى إلى رفع الظلم عن المكوِّن المسيحي السيادي الذي أصبح شأنه شأن غيره من القوى السياسية، إلّا أنّ رفع الظلم توقف عند حدود العودة الى الحياة السياسية، ولكن من دون ترجمة هذه العودة فعالية وطنية وشراكة سياسية، بمعنى أنّ الوضع على مستوى السلطة لم يتبدّل ما بعد الخروج السوري عمّا قبله، الأمر الذي شكل خللاً ميثاقياً وضرَب كل معنى لبنان والفكرة المؤسسة للكيان اللبناني.
وعلى رغم من الاعتراض الشديد للبطريرك صفير على وقف مفاعيل الاستقلال الثاني عند حدود العودة السياسية المادية ومن دون ترجمة مفاعيلها ميثاقياً، وقد عبّر بصراحة وبما يشبه الرسالة الشديدة اللهجة انّ «الطائف أعطانا 64 نائباً ونريد 64»، الّا انّ انقسام البلد عمودياً بنحو غير مسبوق سوى في زمن الحرب اللبنانية، كذلك عودة الانقسام المسيحي الى مراحله السود، أدّى بصفير الى الانكفاء مكتفياً بالإنجاز الكبير والتاريخي الذي حققه وطنياً، وفي إفساح المجال امام القيادات السياسية لكي تتحمل مسؤولياتها، ومن دون أن يتخلى طبعا عن دوره المرجعي والموجِّه للحياة الوطنية.
وفي هذا الوقت بالذات جاءت استقالته وانتخاب الراعي بطريركاً الذي وجد نفسه أمام معادلة مزدوجة: انقسام وطني لا يمكن حلّه لبنانياً وقد يطول لعقود مديدة، وضعف مسيحي سلطوي تعود جذوره الى زمن الاحتلال السوري وفي غياب ايّ مسعى وطني لتصحيح الخلل الدستوري والميثاقي، وانقسام مسيحي يحول دون استعادة الدور الوطني المسيحي.
ولأنّ قيادة معركة وطنية لإنهاء سلاح «حزب الله» على غرار المعركة الوطنية التي قادها صفير لإنهاء الوجود السوري لن تؤدي الغرض المطلوب منها بسبب انّ الحزب لن يسلِّم سلاحه من تلقاء نفسه، وكون هذا السلاح مرتبطاً بمشروع إقليمي إيراني الطابع وحلّه يرتبط بالتسوية على مستوى المنطقة وليس بالتسوية بين اللبنانيين، وكون الاستنزاف من دون سقف زمني يؤدي الى مزيد من تحلّل الدولة وهجرة المسيحيين، وجد الراعي انّ من الأجدى التمسك بموقف وطني مبدئي وهو أن لا قيامة لوطن من دون سيادة وبسلاحين وجيشين، والانصراف إلى معركة وطنية لا تقلّ أهمية إطلاقاً عن المعركة السيادية، لأن لا قيمة للبنان ولا معنى من دون شراكة مسيحية -إسلامية، علما انّ صفير وقوى سيادية عدة كانت تعتبر معه انّ إخراج السوري كفيل باستعادة الشراكة، الأمر الذي، ويا للأسف، لم يتحقق.
فالجانب الآخر للمعركة التي قادها صفير في مواجهة النفوذ السوري تكمن في استعادة الدور الوطني المسيحي والذي اعتبره مسألة تلقائية تتحقق بمجرد رفع الهيمنة السورية، وهذا تحديداً ما انكبّ عليه الراعي منذ اللحظة الأولى لحبريّته من منطلق أن لا قيمة لسيادة اذا لم تعِد الى لبنان معناه وجوهر فكرته، فحوّل الصرح البطريركي الى لقاءات مسيحية من طبيعة ثنائية ورباعية وموسّعة، والهدف من تلك اللقاءات كان يكمن في الثلاثية الآتية:
ـ أولاً، كسر القطيعة السياسية التي كانت قائمة بين القوى المسيحية وفتح باب النقاش في الملفات التي يمكن التوافق حولها وتحييد الملفات الخلافية.
ـ ثانياً، تسليط الضوء على إشكالية التمثيل المسيحي وتحويلها مسألة وطنية لا فقط مسيحية وتتصل بفلسفة الكيان اللبناني الذي يفقد كل مبرّر التعايش في حال فقدانه للشراكة الحقيقية والفعلية.
ـ ثالثاً، إطلاق دينامية وطنية وسياسية مسيحية تحت عنوان التمثيل الصحيح من أجل معالجة الخلل المزمن في هيكل الدولة اللبنانية.
وقد وجد الراعي في معالجة الخلل البنيوي والتكويني للبنان والمتمثل بالتمثيل الصحيح هدفاً أساسياً له على غرار الهدف الذي وضعه صفير بإخراج الجيش السوري من لبنان، وذلك انطلاقاً من التلازم الوثيق بين ثلاثية نهائية الكيان والحرية وتعددية المجتمع القائمة على الشراكة والمساواة، وإذا كان لا قيمة للبنان من دون سيادة، فلا قيمة له ايضاً من دون تعايش حرّ وخلّاق وقائم على الشراكة والمساواة.
ومعلوم انّ همّ الوجود المسيحي يسكن الراعي الذي يرى بأسف شديد زوال المسيحية المشرقيّة، ويريد فعل المستحيل ليبقى لبنان شاهداً على رسالة المسيحية في الأرض التي وطأها السيد المسيح، وعلى غرار صفير الذي أطلق دينامية وطنية أوصلت الى إخراج الجيش السوري، فإنّ الدينامية التي أطلقها الراعي باللقاءات تحت عناوين وطنية ورئاسية ونيابية وإدارية ساهمت مساهمة أساسية في المصالحات المسيحية وفي إحياء ثقافة الشراكة وفي دفع الأمور وصولاً الى مباركة ترشيح الدكتور سمير جعجع للعماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
وما تحقق مسيحياً يعود الفضل الكبير فيه إلى البطريرك الراعي، حيث ان الوضع القائم اليوم أفضل بكثير ممّا كان عليه سابقاً، وتحسين الوضع المسيحي لم يحصل على حساب الشريك في الوطن، بل تحقق انسجاما مع نصوص الدستور وروحيته، وهذا لا يعني انّ مهمة الراعي انتهت حيث عليه تثبيت ما تحقق وتحصينه وعدم السماح بتضييعه على يد بعض الهواة والطارئين، والدفع في اتجاه جعل استعادة الوزن داخل السلطة معبراً لاستعادة الدور الوطني المسيحي الطليعي في إبقاء لبنان منارة في الحريات والديموقراطية والعلم والثقافة والتجربة الإنسانية الحضارية.
وإذا كان صفير انتزع بجدارة لقب «بطريرك الاستقلال الثاني»، فإنّ الراعي انتزع بجدارة مماثلة لقب «بطريرك الميثاق والشراكة».