رغم أنَّ الدولتين تعلنان أنّهما لا تريدان الحرب، كلُّ الاحتمالاتِ واردةٌ بين طهران «الحرسِ الثوري» وواشنطن «إدارةِ ترامب». الممكنُ يصبحُ مستحيلًا والمستحيلُ يصيرُ ممكنًا. لكنَّ استمراريّةَ الصراعِ (لا حربٌ ولا سِلمٌ) استراتيجيّةٌ رابحةٌ للطرفين، فعَداءُ إيران مفيدٌ للولاياتِ المتّحدةِ طالما هو تحت السيطرة، مثلما كان عداءُ نظامِ حافظ الأسد مفيدًا لإسرائيل. حين توجدُ مجموعةُ صراعاتٍ استراتيجيّةٍ في مِنطقةٍ واحدةٍ بين أطرافٍ متعدِّدةٍ، اسْتبقاءُ صراعٍ مع أحدِ الأطرافِ الأساسيّين ضروريٌّ لإيجادِ حلولٍ للصراعاتِ الأخرى ولتغطيةِ تنازلاتٍ غيرِ مباشَرة.
لكنَّ وثوقَ إيران وأميركا من أنَّهما لا تريدان الحرب ربمّا يُسبِّبُ باندِلاعِها. فاطمِئنانُهما إلى انتفاءِ النيّةِ بالحربِ يُشجِّعُهما على الإسرافِ في التحدّي المتبادَل ما قد يؤدّي إلى «حربِ الدعْسةِ الزائدة»، خصوصًا أنَّ ديناميّةَ الشرقِ الأوسط، بما فيه الخليجُ وإيران، هي، منذُ سنواتٍ، ديناميّةُ عنفٍ. كما أنَّ آفةَ الكِبرياءِ، التي تُميّزُ الإدارتين الإيرانيّةَ والأميركيّةَ، من شأنِها في أيِّ لحظةٍ أنْ تُـمِيلَ الكفّةَ نحو الحربِ كما حَصل سنةَ 2003 بين جورج بوش الابن وصدّام حسين.
في هذا السياق، لم تُحدِّد أميركا بعدُ أيَّ نوعٍ من التحدّياتِ الإيرانيّةِ هو بمثابةِ إعلانِ حرب: هل الِانسحابُ من الاتفاقِ النوويِّ وبَدءُ التخصيب؟ هل إغلاقُ مضيقِ هُرمز؟ هل اعتداءٌ على قوّاتِها أو مصالحِها في الشرقِ الأوسط والعالم؟ هل نشرُ صواريخَ قربَ أسطولِها؟ هل عرقلةُ نقلِ النفط؟ هل تحرُّشٌ عسكريٌّ مباشِرٌ بأحدِ حلفائِها الخليجيّين؟ هل تحركٌ عسكريٌّ يقوم به حزبُ الله في جنوب لبنان؟ سنةَ 1967 اعتبرت أميركا وإسرائيلُ إعلانَ حربٍ، إقدامُ الرئيس المصري جمال عبد الناصر على طلبِ رحيلِ قوّاتِ الأممِ المتّحدةِ من خليجِ العَقَبة وإغلاقِ مضيقِ «تيران» ومنعِ السفنِ الإسرائيليّةِ من عبوره. وكان ما كان...
في المواجهةِ مع إيران تَركت أميركا الخطوطَ الحمراءَ مفتوحةً، فلا تُضْطرُّ إلى إعلانِ حربٍ إذا حصل تحدٍ إيرانٌّي ما، وأبقَت عنوانَ تطويقِ إيران عسكريًّا في إطارِ الضغط عليها لتغييرِ سلوكِها في المِنطقةِ وعقدِ اتفاقٍ نوويٍّ جديدٍ معها. لكن، أَلا يَخسَرُ ترامب ورقةَ الضغطِ العسكريِّ للوصولِ إلى المفاوضاتِ حين يُعلن أنَّ هذا الحشدَ الحربيَّ ليس لشَنِّ حربٍ؟
حتّى الآن، تبدو إيران المستفيدَ مرحليًّا من حالةِ التوتّرِ من دون حربٍ: 1) تَحدّت الولاياتِ المتّحدةَ الأميركيّةَ وأَظهرت شجاعةً وتَماسُكًا رغم قساوةِ العقوبات وشِدّةِ الحصار. 2) اختبَرت ردودَ فعلِ أميركا ودولِ الخليجِ من خلالِ الاعتداءاتِ على السفنِ الإماراتيّة ومنشآتِ النفطِ السعوديّةِ والصاروخِ الموجَّه نحو حيِّ السفارةِ الأميركيّةِ في بغداد. 3) أثّرت على أسعارِ النفطِ ارتفاعًا وعلى أسعارِ البورصاتِ العربيّةِ والدوليّة انخفاضًا. 4) استحْصَلت على اهتمامِ أوروبا فضَغطَت هذه على واشنطن لإعطاءِ الأولويّةِ للمفاوضات. 5) قَلّصَت التزامَها بالاتفاقِ النوويِّ وهَدَّدت بمضاعفةِ نسبةِ تخصيبِ اليورانيوم. 6) حافَظت على امتدادِها العسكريِّ في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
هذا الواقعُ مرشَّحٌ للتغيير. فإسرائيلُ، التي تَتحيّنُ منذ عقودٍ فُرصةَ وصولِ رئيسٍ مثلَ ترامب إلى البيتِ الأبيض، من أجلِ إنهاءِ الحالةِ الإيرانيّةِ المتناميةِ منذ أربعين سنةً، وخَتمِ صراعٍ مع العربِ يَدوم منذ سبعينَ سنةً، لن تُفوِّتَ هذه اللحظةَ التاريخيّةَ. فهي المرّةُ الأولى، وربّما الأخيرةُ، التي تُرسِل فيها أميركا قوّاتـِها وبوارجَها وأساطيلَها إلى الخليجِ، ما يوفِّر على إسرائيل شرَّ التدخّلِ العسكريِّ المباشِر ضِدَّ إيران.
هكذا يَتبيّن أنَّ المِلفَّ الإيرانيَّ يحتوي ثلاثةَ مِلفّات متمايزة: العَلاقاتُ الأميركيّةُ/الإيرانيّة، العلاقاتُ الإسرائيليّةُ/الإيرانيّة والعلاقاتُ الأميركيّةُ/الإسرائيلية. إسرائيل تريد حربًا فسِلمًا، وأميركا تريد سِلمًا من دون حرب، وإيرانُ لا تريد لا حربًا ولا سِلمًا. وإذا كانت الانتخاباتُ الإسرائيليّةُ جَرت في نيسان الماضي وانتصَر فيها بنيامين نتنياهو، فالانتخاباتُ الرئاسيّةُ الأميركيّةُ والإيرانيةُ أمامنَا.
لا أرى الرئيسَ الأميركيَّ يُخاطر بحظوظِ فوزِه بولايةٍ ثانيةٍ في حربٍ ضِدَّ إيران حتى لو دَمّرها ـــ وهو أمرٌ مُستبعَدٌ ــــ فالأميركيّون لا يَرغَبون بحروبٍ جديدةٍ بعد سلسلةِ الحروبِ الملتبِسةِ النتائجِ التي خاضَتها دولتُهم في الشرق الأوسط. ولقد عاقَبَ الشعبُ الأميركيُّ الرؤساءَ الذين خاضوا تلك الحروب، وانتخَب الرئيسَ باراك أوباما ثم دونالد ترامب اللَذيْن أعطيا الأولويّةَ للنموِّ الداخليِّ على خوضِ الحروب.
أما إيران، والصراعُ على رئاستِها المقبِلة بدأ باكرًا بين أجنحةِ الثورةِ الخُميّنيّةِ، فليست دولةً مغامِرةً لكي تَذهبَ في لعبةِ استفزازِ أميركا حدَّ التسبُّبِ في اندلاعِ حربٍ تدمِّرُ بُناها العسكريّةَ والنفطيّةَ والاقتصاديّةَ والعمرانيّةَ التي عَمِلت على بنائِها وتطويرِها وتعزيزِها منذ الثورةِ الخمينيّةِ إلى اليوم، وتُعرِّضُ دورَها الشرقَ أوسطيَّ لخطرِ الانحسارِ الكبير. فبينَ المحافظةِ على وجودِها قوّةً إقليميّةً غيرَ نوويّةٍ وبين هزيمتِها في حربٍ، ستَختار أمنَها ودورَها على أن تَخسَرَ الحربَ والدورَ والطاقةَ النوويّةَ معًا.
كانت أميركا وإسرائيل تريدان إيران قويّةً للتهويلِ بها على دولِ الخليجِ، وضعيفةً فلا تَمنعُهما من تحقيقِ مشاريعهِما في الشرقِ الأوسط. لكنّهما لا يريدانِها مطلقًا قوّةً إقليميّةً كبرى ونوويّةً ومتراميةَ الأطراف. وبعدما فَشِلت عمليّةُ تحجيمِ إيران من خلالِ تحجيمِ حلفائِها وأدواتِها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، بدأت منذ سنةٍ عمليةُ تحجيمِ إيران مباشرةً. والاستنفارُ العسكريُّ الأميركيُّ باقٍ سنةً أخرى، على الأقل، من أجلِ هذه المهمّةِ ولرعايةِ المفاوضاتِ الجديدةِ معها ولمواكبةِ صفقةِ القرنِ وحمايةِ الدولِ العربيّةِ التي تَقبَلُ بها.
وما لم يَطرأْ حدثٌ جَلَل، فالحشودُ العسكريّةُ الأميركيّةُ قُبالةَ الشواطئِ الإيرانية هي لمنعِ حربٍ أكثرَ مما هي لشنِّ حرب. فترامب يَسعى إلى فرضِ تسويةٍ على إيران حسبَ شروطِه؛ أي كأنّه انتصَر في الحربِ على إيران من دونِ أنْ يَخوضَها. وإيران تفضِّلُ تسويةً، بعد ترامب على الأرجح، كأنَّ لا عقوباتٍ عليها ولا حصارَ.