كل هذه التهديدات الإيرانية ضد العقوبات الأميركية، وفي مواجهة الحشد العسكري البحري والجوي المتصاعد، ولم تجد طهران غير ما يسمى «وحدات الشهيد علي منصور محمد الجبوري»، لتعلن أنها المسؤولة عن إطلاق الصاروخ على محيط السفارة الأميركية في بغداد، رداً على عملية يعود تاريخها إلى العام 2008!
غريب، لكنه مفهوم جيداً... «لسنا نحن»!
هناك عشرات الميليشيات التي تديرها إيران في العراق، والتي أشارت معلومات أميركية سابقة، عن أن قاسم سليماني عقد اجتماعاً مع قادتها قبل 3 أسابيع، لوضع خطط لضرب المصالح الأميركية في المنطقة، مع ازدياد العقوبات على طهران، بالمناسبة كانت تركيا آخر من أوقف استيراد النفط الإيراني، فمن أين جاءت «وحدات الجبوري»؟
جاءت من الحرص الواضح على ألا تتبنى طهران نظرية «حرب الوكلاء» التي تتهمها أميركا بالتحضير لها، بل تكتفي الآن بتفجير بعض رسائلها انطلاقاً، أولاً من إشعال الوضع في غزة، ثم من ضرب الناقلات الأربع في مياه الفجيرة، ثم من القصف على السفارة الأميركية في بغداد، وإطلاق الحوثيين الصواريخ الإيرانية والطائرات المسيّرة على المملكة العربية السعودية.
لكن كل ذلك لا يعني أن الحرب ستندلع، رغم التهديدات والحشود البحرية والبرية من الطرفين، فإيران لا تستطيع تحمّلها عسكرياً، وهي المأزومة اقتصادياً، وفي المقابل لا ترغب أميركا في الانغماس بها، في منطقة حيوية للأمن الاقتصادي العالمي، وخصوصاً أن ما يمكن أن تحققه الحرب الباردة عبر العقوبات المتصاعدة على إيران، سيكون أهم وأقل كلفة من أي حرب عسكرية!
الإيرانيون يعرفون ذلك جيداً، لكن ليس في وسعهم التوقف عن المناوشات على الأقل من أجل هيبة النظام داخلياً، والسعي للحفاظ على ما يمكن من المكاسب إقليمياً، والمعنى العملي لهذا أن الوضع مستمر في مستوى العضّ على الأصابع، ولكن ليس خافياً طبعاً من الذي سيصرخ أولاً، وخصوصاً أن رهانات النظام الإيراني، لا تقوم قطعاً على أنه من الممكن أن يتراجع ترمب عن قراره دفعهم إلى الطاولة للتفاوض على اتفاق جديد وفق الشروط الـ12 التي سبق أن حددها مايك بومبيو.
ولا تقوم على أن يأتيهم الخلاص، لا من الأوروبيين الذين يتهمهم ظريف بالتقصير، ولا من الروس، عندما يقول فلاديمير بوتين للمرشد علي خامنئي كلاماً مُحبطاً جداً، بأن روسيا لن تلعب دور الإطفائية، وهي التي تعطي بنيامين نتنياهو مزيداً من الوقت لضرب الإيرانيين في سوريا!
وماذا في وسع الصينيين أن يفعلوا، وهم لا يملكون وقتاً يصرفونه خارج الاهتمام بحربهم الاقتصادية المتصاعدة والمتعبة مع الولايات المتحدة، فماذا يبقى سوى الرهان الإيراني على أن تنشّق الأرض وتبتلع الرئيس دونالد ترمب، أو الانتظار مدة عامين تقريباً، في انتظار أن يربحوا ورقة «اللوتو الديمقراطي» بأن يصل في الانتخابات المقبلة إلى البيت الأبيض، غريم ترمب جو بايدن المرشح الديمقراطي، الذي كان نائباً لباراك أوباما، الذي وقّع معهم الاتفاق النووي!
ولكن السؤال الصعب هنا يبقى، كيف يمكن للنظام للإيراني الصمود اقتصادياً، سواء بالنسبة إلى الداخل، وقد صار الدولار الواحد يساوي 142 ألف تومان، بعدما كان في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مع بداية العقوبات يساوي 35 ألف تومان، وقد ترددت أخيراً أنباء غير مؤكدة حتى الآن عن أن الأغذية صارت توزع بـ«البونات»، وأيضاً بالنسبة إلى الخارج حيث كانت طهران تصرف المليارات لدعم الميليشيات التي تديرها في المنطقة.
نائب وزير الدفاع الأميركي باتريك شاناهان، قال يوم الثلاثاء الماضي، بعد إطلاع الكونغرس على تطورات الوضع، إن التحركات العسكرية الأميركية في الخليج دفعت طهران إلى أن تعيد حساباتها جيداً، و«لكننا في فترة لا تزال فيها الأخطار مرتفعة، وتقضي مهمتنا التأكد من ألا يخطئ الإيرانيون في الحسابات، وأن تحركاتنا أعطت الإيرانيين وقتاً للتفكير» ومن الواضح تماماً أن هذا الكلام ينطوي على رغبة أميركية في عدم إشعال الحرب!
ولكن الإيرانيين بدورهم يدرسون حساباتهم جيداً، ويعرفون صعوبة الخيارات التي يواجهونها، وهكذا يأتي الرد من محمد جواد ظريف، الذي شدد في مقابلة مع «CNN» على ضرورة «التزام الحذر الشديد، وأن الولايات المتحدة تلعب لعبة خطرة جداً… وأن التصعيد ليس من مصلحة إيران، وقد قلنا بوضوح إننا لن نكون من يبدأ بالتصعيد، لكننا سندافع عن أنفسنا»!
وفيما بدا أنه موافقة ضمنية على تحذير شاناهان، على ألا يخطئ أحد في الحسابات، قال ظريف إن وجود كل هذه الإمكانات العسكرية في منطقة بحرية صغيرة، يشكل في ذاته عاملاً لوقوع حوادث، وستكون العواقب مؤلمة للجميع!
من الواضح جداً أن ترمب الذي قال دائماً لا نريد إسقاط النظام الإيراني، بل تغيير سلوكه، يعرف جيداً المثل الذي أطلقه جون فوستر دالاس «لوّح بعصا غليظة وتحدث بصوت خفيض»، ولهذا كان مفهوماً تماماً، أن يصل الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي يوم الاثنين إلى طهران، بعد اتصال لافت، كان قد أجراه وزير الخارجية مايك بومبيو مع السلطان قابوس، فيما يبدو أنه تنشيط للوساطة العمانية، التي كانت قد لعبت دوراً خلال المحادثات بين الإيرانيين وإدارة أوباما!
يوم الثلاثاء الماضي، قال ترمب إنه لا يزال مستعداً لإجراء محادثات مع الإيرانيين عندما يكونون مستعدين، وأوضح أنه لم يسعَ لإجراء هذا الحوار، وأنه إذا أرادت طهران أن تتفاوض فيتعيّن عليها القيام بالخطوة الأولى، ولكن إذا فكروا بمهاجمتنا فستكون النهاية الرسمية لإيران.
الأكثر إثارة هنا أن الاتصال الذي أجراه بومبيو مع السلطان قابوس، تزامن مع استقبال ترمب الرئيس السويسري أولي ماورر في البيت الأبيض، وجاء مباشرة بعد قول ترمب إنه مستعد لاستقبال مكالمات هاتفية من المسؤولين الإيرانيين إذا طلبوا ذلك، ثم خرجت تسريبات من البيت الأبيض تقول إن ترمب زوّد الرئيس السويسري رقم هاتف خاص، وطلب تمريره إلى الإيرانيين، لكن من الواضح أن أي مفاوضات يفترض أن تتم تحت سقف الشروط الـ12، التي سبق أن حددتها واشنطن، والتي تكفل إنهاء عربدة الإيرانيين في المنطقة، ووقف تجاربهم الصاروخية والتفاوض لوضع اتفاق جديد حول المسألة النووية. ومن الواضح جداً أن هذا الذي دفع المرشد علي خامنئي إلى القول إن الحرب لن تقع، ولكن التفاوض مرفوض، وهو مثل السم الزعاف!
وهكذا تستمر عملية العضّ على الأصابع، لكن من الواضح أنه لن يكون في وسع النظام الإيراني، أن يخرج من هذه الأزمة كما كان، فلا هو مستعد لحرب مدمرة، ولا هو قادر على تحمل العقوبات زمناً طويلاً، وخصوصاً أن التهديدات الأميركية ليست مجرد عراضات، فقد نصح وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت قبل أيام الإيرانيين بعدم التقليل من عزم الجانب الأميركي:
«إن الولايات المتحدة لا تريد الحرب مع إيران، ولكن إذا هوجمت مصالح أميركية على يدهم أو عبر وكلائهم فسيردون بقوة، وعلى الإيرانيين أن يفكّروا في الأمر ملياً وملياً جداً».