يرى خبير عسكري عاين المرحلة التي تلت إعلان ترامب سحب الوحدات الأميركية من مواقعها في سوريا أنها كانت مرحلة مليئة بالأفخاخ والمفاجآت الصادمة التي اختلف في قراءتها حلفاءُ واشنطن كما أعداؤها. فالقرار بإخلاء منطقة التنف جنوب شرق سوريا عند مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية وشمال شرق البلاد عند ملتقى نهر الفرات على الحدود التركية - السورية هو قرار متسرّع. فكيف إذا امتدت خريطة الإنسحابات الى المنطقة الشمالية - الشرقية الممتدة من ملتقى مجرى الفرات والحدود التركية وعلى طول الحدود الى مثلث حدودها مع سوريا والعراق؟
ويضيف هذا الخبير: «كانت ردات الفعل الأولى لا تصدَّق، وطُرحت مجموعة من الأسئلة وأبرزها على سبيل المثال لا الحصر:
- هل إنّ هناك مَن يتّخذ مثل هذا القرار في ظلّ المواجهة المفتوحة بين الحلف الدولي لمكافحة الإرهاب من جهة والحلف الروسي ـ الإيراني ـ التركي من جهة أخرى. وفي وقت ما زالت «داعش» تسيطر على مناطق واسعة بين الحدود السورية والعراقية وفي قلب الشمال السوري.
- وهل إنّ حصر الوجود الأميركي في مناطق وبقاع عراقية لوحدها من دون مراكز إنذار مسبق على الحدود السورية ـ العراقية يحتمل أيّ تفسير عسكري أو أمني منطقي ومقبول وخصوصاً أنه تزامن مع إصرار أميركي على إقفال الحدود السورية - العراقية امام القوات الإيرانية وحلفائها لقطع الطريق بين طهران وبيروت عبر بغداد ودمشق.
- وهل يمكن واشنطن أن تتخلّى عن أقرب حلفائها الأكراد الذين لم يبق لهم سواها على الساحة السورية وترك المنطقة التي يسيطرون عليها لقمة سائغة أمام أكثر من عدوٍّ يريد منها الكثير الكثير ولكل منهم سبب. فهي منطقة مطوَّقة من الجنوب بالجيش السوري والوحدات التي يديرها الحرس الثوري الإيراني و«حزب الله» ومن الشمال بالجيش التركي ومن الشرق بمناطق يسيطر عليها ما تبقى من قوات «داعش».
ولا يغفل الخبير نفسه كثيراً من الأسئلة الأخرى، قبل أن يعدّد بعض المحطات التي دفعت الى التريّث في تنفيذ القرار. فعلى وقع العدادات التي نصبها الروس والإيرانيون والأتراك لمواكبة التوقيت الأميركي للإنسحاب وفق مهلة المئة يوم التي أعطاها ترامب للتنفيذ، كانت الأنباء تتحدث عن رفض عدد من المؤسسات الأميركية هذا القرار. وتزامناً مع الرفض الصريح لوزير الدفاع السابق الجنرال جوزف ماتيس ومعه رئيس جهاز الأمن القومي جون بولتون وضباط المخابرات للقرار، كان القائد السابق للمنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال جوزف فوتيل قد أعلن بعد يومين على صدوره أنه جاهز للتنفيذ على رغم من إدراكه صعوبة المهمة واستحالتها لكنه مجبرٌ على تنفيذ أمر رئاسي لا نقاش فيه ولا جدال.
وعندما رُصِدَت في حينه أولى تحركات الجيش الأميركي للانسحاب من منبج تعرضت قوة اميركية لتفجير انتحاري سقط فيه ضباط اميركيون ومتعاقدون مدنيون معهم فتوقف الانسحاب، وإندفعت بالقوات الأميركية لاحقاً ومعها وحدات قوات سوريا الديمقراطية «قسد» الى شنّ حملة عسكرية ضد مواقع «داعش» شرق مجرى الفرات والباغوز حتى إنهائها. وتزامنت هذه الخطوة مع تحذير أميركي مزدوج شديد اللهجة لأنقرة لمنعها من أيِّ عملية غرب الفرات، وللجيش السوري في اتجاه إدلب ومحيطها.
على هذه الخلفيات، عبرت مهلة المئة يوم التي أُعطيت للانسحاب، فانقلبت الأدوار والمحطات وبدأت خطوات تعزيز القوات الأميركية في المناطق التي كان الإنسحاب سيشملها بدلاً من إخلائها وتوسعت رقعة الإستنفار الأميركي من الأراضي السورية الى العراقية منها فتوحّدت الساحتان وبات الإنسحاب الأميركي من أيّ منهما ضرباً من الجنون.
ومن دون الدخول في كثير من تفاصيل تلك المرحلة ووقائعها المتلاحقة، يتوقف الخبير أمام التطورات التي أعقبت بدء العقوبات الأميركية على إيران وحلفائها في الأول من أيار الجاري المرحلة الأكثرَ تشدّداً، فارتفعت حدة المواجهة وفجّرت وحداتٌ من الكوماندوس البحري البواخر الأربع في ميناء الفجيرة وجاء الهجوم على محطتي الضخ للنفط السعودي على خط أنابيب يصل ما بين غرب المملكة وشرقها، لترفع من نسبة التوتر الى الذروة والتي زاد منها إطلاق صاروخ على مقرّ السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في قلب بغداد وهو ما عُدّ سلوكاً إيرانياً أعاد القوات الأميركية الى المنطقة بقوة.
عند هذه الروايات المتتالية للوقائع التي أنهت مفاعيل قرار الإنسحاب الأميركي من سوريا ـ يضيف الخبير - تتوالى الأنباء عن تعزيز المواقع الأميركية بترسانة من الأسلحة المتطورة. فإلى حاملة الطائرات التي انتقلت الى بحر العرب ومعها طائرات الـ«إيواكس» و«الشبح» وحاملات الصواريخ ومنصات «الباتريوت» الى المنطقة، لم يعد الأمر مستبعداً أن تعزّز القوات الأميركية مواقعها بالقوى البرية إن دعت الحاجة. وهو ما يرسم خطاً بيانياً ينهي فصلاً من فصول سياسة ترامب. فهو مَن وعد الأميركيين في حملته الإنتخابية بالإنسحاب من مناطق التوتر والعودة بأبنائهم الى الأراضي الأميركية ولكنه لم يفعلها، فنكث بوعد من وعوده التي ترجمها على اكثر من مستوى داخلي. وهو ما عزّز الإعتقاد بأنّ ذلك لن يكون له أيّ تأثير على شعبيته فالنهضة الإقتصادية التي تعيشها بلاده وتراجع نسبة البطالة الى 3،3% اعطته زخماً كبيراً لضمان قوته وحضوره الداخلي على أبواب مرحلة التجديد في 2020.
وعليه، وفي خلاصة القول الذي تقود اليه كل هذه المعطيات يمكن طرح السؤال: هل أتمّ «ترامب 2019» انقلابه على «ترامب 2018»؟ وهل من اسباب أخرى ستظهرها الأيام المقبلة لتثبيت قواعد هذا الإنقلاب.