إلى عهد قريب، وبالتحديد إلى اليوم الذي فاز فيه دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة كان كثيرون منا يعتقدون بأن الأميركيين هم المثال النادر الوحيد على وجه الكرة الأرضية في النقاء الديمقراطي وصلابة الإيمان بالوطن والمواطنة، حكاما ومحكومين، وأن المصالح القومية العليا فوق أيّ مصالح شخصية أو حزبية أو مناطقية، وأن التبادل السلمي النزيه والمحترم للسلطة عبر تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الطويل شيء فريد لا يحدث في غيرها من البلدان.
فالذي حدث في أميركا، هذه المرة، كان شبيها بما يحدث في عالمنا الثالث من معارك بين حكام جدد وآخرين بائدين، لا مكان فيه لديمقراطية، ولا لمصلحة وطن. فلا الجمهوريون الرابحون، ولا الديمقراطيون الخاسرون، تركوا وسيلة للانتقام من خصومهم إلا وبرعوا وبالغوا في استخدامها. وكما يفعل السياسيون عندنا في بلاد العالم الثالث، فقد تبادل الديمقراطيون والجمهوريون الأميركيون نفس الشتائم، ودبّروا نفس الدسائس، ولفقوا نفس الأكاذيب، ونقبوا عن نفس الفضائح، حتى أثبتوا أن الشعار الذي كانوا يتغنون به في كل دعاية انتخابية GOD BLESS AMERICA) يا رب بارك أميركا) كان كلاما في كلام.
وهذا هو ترامب، منذ أوّل أيامه في البيت الأبيض، وهو مجندٌ نفسَه وإدارته وحزبه لصد هجمات الديمقراطيين ومواجهة مقالبهم ومؤامراتهم التي لا تنتهي، ومنهمك في معاركة أجهزة الإعلام المنحازة إلى الديمقراطيين، من أول يوم له في الرئاسة وحتى يوم أمس، وسيبقى يحارب ويتلقى منهم الطعنات إلى ما لا نهاية.
في غمرة انخراطه بسياساته الجديدة إزاء إيران، تهبط “سي.أن.أن” من عليائها وتقلد الجزيرة القطرية بحشد كل مراسليها ومحرريها ومخبريها وكتابها ومحلليها لالتقاط أي خبر أو أي تصريح يصب في صالح النظام الإيراني
ولكن هذا الصراع الدامي قد يكون بسيطا وقابلا للتمرير، ويمكن بلعه فقط حين يظل داخليا بين مواطن أميركي مؤيد لهذا الحزب وآخر مؤيد لذاك، أو بين نائب ونائب، أو سيناتور وسيناتور، أو بين محطة تلفزيون ومحطة تلفزيون أخرى، ولم يتحول إلى تخابر مع دولة خارجية عدوة، أو إلى جهد جهيد من أجل تخريب علاقات رئيس دولته مع دول أخرى، وعرقلة مشاريعه الخارجية، ويصبح نضالا شبيها بالنضال الذي نعرفه في دولنا المتعوّدة على الحوار بالسكاكين والخناجر والمفخخات.
والغريب أن يكون في طليعة المهووسين بإقالة ترامب أو إرباكه على الأقل، شخصيات من وزن ثقيل أمثال باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجون كيري وجو بايدن وباقي الزعماء الذين كانوا ذات يوم يقررون مصير أميركا والعالم وهم بهذه النفوس المريضة والعقول المسكونة بالغدر والتآمر والاحتيال.
ومن بين من أزعجه فوز ترامب بالرئاسة أو أضرّ بمصالحه أصحاب فضائيات عملاقة كنا إلى أمد قريب نظنها قمة في الأمانة والصدق والتفاني والنزاهة والإخلاص لمهنة الإعلام المقدسة.
ومناسبة هذا المقال ما ذكره الرئيس الأميركي، بعظمة لسانه، عن جون كيري، المرشح السابق للرئاسة ووزير خارجية أوباما الذي هندس له مشاريعه السياسية والاقتصادية والنووية مع نظام إيران. فقد أعلن أن كيري يقوم بالاتصال بالإيرانيين ليحثهم على عدم الرضوخ لمطالب ترامب، وليدلّهم على نقاط الضعف في مواقف إدارته، من أجل عرقلة مشاريعها في المنطقة.
فإن صح هذا الاتهام الخطير فإن ما قام به جون كيري الذي أوشك أن يصبح رئيسا لأميركا والعالم ذات يوم من عام 2004 عمل مشابه تماما لما يقوم به هادي العامري ونوري المالكي وقيس الخزعلي وأبومهدي المهندس في العراق، في مناصرتهم لإيران ودفاعهم عنها وهي دولة معادية لوطنهم وشعبهم، لا في هذا الزمن الرديء فقط، بل من عشرات القرون. وحتى لو اختلفت مصالحه السياسية الشخصية والحزبية مع رئيسه، المنتخب من أكثرية الأميركيين، شاء أم أبى، فلا يجوز له أن يطعن دولته في ظهرها وهي في عز انشغالها بمواجهة عدوِّ مصالحِها، والأخطر على حلفائها، لإجباره على تحسين سلوكه، والكف عن استخدام الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وهذا كله مضاف إلى “استمرار الديمقراطيين في الكونغرس في تجاهل واجباتهم البرلمانية، ومواصلة مطارداتهم الشعوائية” لإرباك أداء الإدارة الجمهورية وتعجيزها. وإذا كان طبيعيا ومنتظرا أن تهبّ إيران، ومعها وكلاؤها العراقيون واللبنانيون والسوريون واليمنيون والفلسطينيون، وبكل ما أوتيت من جهد، لإقناع شعوب العالم الإسلامي بأن ترامب عدوّها المبين، وبأن مواقفه من النظام الحاكم في طهران هي حرب على الإسلام والمسلمين، فلا يمكن أن يعتبر أحد مشاكسات الديمقراطيين ديمقراطية، بأي حال من الأحوال.
ألا ترون كيف تنقب شبكة “سي.أن.أن” عن أي حبة لتخلق منها قبة، أيا كان حجمها وقيمتها الحقيقية، فقط لمحاربة ترامب، وتعطيل سياساته، بغض النظر عن خطئها أو صوابها؟
ففي غمرة انخراطه بسياساته الجديدة إزاء إيران، تهبط “سي.أن.أن” من عليائها وتقلد الجزيرة القطرية بحشد كل مراسليها ومحرريها ومخبريها وكتابها ومحلليها لالتقاط أي خبر أو أي تصريح يصب في صالح النظام الإيراني، وينتقد سياسة ترامب، لتسطيحها وتسخيفها. وإليكم عينة من آخر أخبارها ولقاءاتها.
- قال وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إن سياسات الولايات المتحدة في منطقة الخليج هي التي خلقت الأعداء لأميركا، مضيفا أنه لا علاقة لبلاده بالهجمات الأخيرة التي استهدفت منشآت نفطية في المملكة العربية السعودية. محذرا من أن الولايات المتحدة تمارس لعبة بالغة الخطورة في المنطقة، في أعقاب قرارها إرسال أصول عسكرية ثقيلة إلى الخليج. (جاء ذلك في مقابلة حصرية مع “سي.أن.أن” أجراها فريد بلايتغين).
- قالت روبين رايت، الكاتبة الأميركية المشاركة مع صحيفة نيويورك تايمز، إن إيران ليست ضعيفة، لافتة إلى أن 5 من القوى الدولية الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني لا تزال تؤمن به، وتدعمه. (جاء ذلك في مقابلة لرايت مع فريد زكريا لـ”سي.أن.أن”)
- رأى الرئيس الإيراني حسن روحاني أن نظيره الأميركي دونالد ترامب تراجع عن تهديداته لإيران، لأن مستشاريه العسكريين نصحوه بعدم خوض حرب مع طهران. وفقا لما ذكره المكتب الإعلامي للرئاسة الإيرانية.
وقال روحاني “عندما يعلن البيت الأبيض أن على الأمة الإيرانية أن تخافنا، وبعد ذلك بساعات قليلة يظهر الرئيس الأميركي تحت ضغط البنتاغون ويعتذر قائلا إنه لا يسعى لاجتياح إيران، فهذا يظهر قوة أمتنا”.
- قال ريتشارد هاس، مستشار الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إن الإدارة الأميركية الحالية وضعت هدفين وراء سياساتها ضد إيران، مشيرا إلى أن أيا من الهدفين لن يتم تحقيقه. وأوضح هاس في مقابلة مع “سي.أن.أن” أن ما تريده الإدارة الأميركية حاليا هو الدفع بسياسة الضغط على إيران في سبيل إما تغيير النظام الإيراني وإما تغيير جذري في سياسة إيران، وكلاهما متشابه، وكلاهما لن يحصل. ونسأل ألا تشبه معارك هؤلاء بما يحدث في دولنا التي برعنا فيها في محاربة بعضنا لبعض، حتى لو اضطررنا إلى نقب السفينة وإغراقها، وليكن ما يكون؟