تبدو السياسة الأميركية العامة للناظر إليها ببداهة أو سطحية، أنها عبارة عن مدار لا ينتهي من التخبط. بينما في العمق، هي ليست أكثر من توزيع للأدوار، وإظهار هذا التناقض أو التضارب في مساراتها. ويكاد لبنان يشكّل الساحة الأوضح لهذا التضارب. إذ تفرض الإدارة الأميركية عقوبات على حزب الله، وتصنّفه منظمة إرهابية وإجرامية عابرة للحدود، ولا تميز بين شقيه السياسي والعسكري. لكنها في المقابل، تحرص على التعاطي مع الحكومة اللبنانية وإستمرار العلاقات معها، على الرغم من كلام وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو، خلال زيارته إلى لبنان، أن حزب الله يسيطر على كل المفاصل في الدولة اللبنانية، إلى حدّ يصعب فيه التمييز بين الحزب والدولة!
الجيش والمصارف
تستمر الولايات المتحدة الاميركية بتقديم الدعم الهائل للجيش اللبناني، وتحرص على إبقاء العلاقات معه في مجال التسليح والتعاون العسكري والإستخباري والحدودي كذلك. بينما تخرج أصوات أخرى من داخل الإدارة الأميركية معتبرة أن الجيش ينسّق إلى حدّ بعيد مع حزب الله، ويتمتع الحزب بعلاقة قوية ومؤثرة في المؤسسة العسكرية. ويستعيد هؤلاء تجربة معارك جرود عرسال وجرود القلمون، ويعتبرون أن الحزب استند في معاركه هناك على كم هائل من التنسيق والمعلومات من الجيش اللبناني.
والازدواجية نفسها تنطبق على آلية تطبيق العقوبات المفروضة أميركياً على حزب الله والمؤسسات التي لها علاقة مالية بالحزب، وصولاً إلى الزيارة الأخيرة التي أجراها وفد من جمعية المصارف إلى الولايات المتحدة، واللقاءات التي عقدها مع مسؤولين في الخزانة الأميركية، لتأكيد المضي بتطبيق الإجراءات العقابية، بلا أي محاولات إلتفافية. وهذا ما يتزامن مع تهويل أميركي مستمر حول قرب صدور لائحة عقوبات جديدة ضد الحزب وضد سياسيين محسوبين عليه. لكن ذلك كله لا يؤدي إلى أي تغيير على المستوى السياسي.
ساحة الخليج
حالة الإنفصام الأميركي في التعامل مع لبنان، ليست فريدة. إنما السياسة الأميركية بكليتها تقوم على هذا النوع من الازدواجية. وكانت التطورات في الأسبوعين الأخيرين أبرز الدلائل على ذلك. إذ افتتح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهر الحالي بقرار "تصفير" الصادرات النفطية الإيرانية، واستكمل تعزيز إجراءاته بإرسال حاملات الطائرات والقاذفات إلى بحر الخليج ومنطقة الشرق الأوسط. وتعمّدت الإدارة الأميركية الإيحاء بأن ترامب يستعد لشنّ هجوم على إيران. تسمرّ العالم لساعات يترقّب تداعيات خطوات الرئيس الاميركي، ليتم الإعلان فيما بعد أن إرسال هذه القوات العسكرية أدى إلى تحقيق الهدف، وهو منع إيران من تنفيذ عمليات عسكرية ضد أهداف أميركية. بينما كان مؤكداً أن طهران لن تلجأ إلى استهداف المصالح الأميركية المباشرة، لعلمها أن واشنطن ستسارع إلى الردّ، فاختارت إيران توجيه ضربات ضد حلفاء أميركا في الخليج العربي. وعلى ما يبدو، أن حلفاء طهران يستعدون لتنفيذ المزيد من العمليات، بشكل لا يستدعي أي تدخل أميركي مباشر، خصوصاً أن ترامب كان قد أعلن سابقاً بأن واشنطن لن تخوض الحروب نيابة عن حلفائها، وعليهم أن يدافعوا عن أنفسهم. كما أن المسؤولين الأميركيين في اليومين السابقين أكدوا بأن واشنطن لا تريد الدخول في معركة عسكرية طالما مصالحها المباشرة لم تتعرض لأي أذى.
الاستدارة إلى "الساحة" السورية
بالمقابل، لم يكن حدثاً منفصلاً إقدام 400 عضو من الكونغرس الأميركي على إرسال عريضة لترامب، تطالبه بالعمل على تغيير الوضع في سوريا. تزامنت العريضة مع مواقف للخارجية الأميركية المهددة بالردّ على النظام السوري، إذا ما ثبت استخدامه للأسلحة الكيماوية في التاسع عشر من أيار الحالي في إدلب. ما بين رسالة الكونغرس للاهتمام بالشأن السوري، وموقف الخارجية حول إمكانية توجيه ضربة للنظام على خلفية استخدام الكيماوي، يصبح المشهد مكتملاً. وتوزيع الأدوار أوضح. بسرعة، نقل الأميركيون أنظار العالم من الخليج وإيران إلى سوريا، والتي تمثل ساحة مفتوحة، بإمكان الجميع تصفية حساباتهم فيها، أو حتى تنفيس الإحتقانات الأخرى.
يوم وجه ترامب ضربة التوماهوك في العام 2017، على خلفية استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في خان شيخون، ظن العرب أن الرئيس الجديد مختلف عن أوباما. لكن، بالعودة إلى تلك الضربة فهي لم تحقق شيئاً، ولم تغيّر مجريات الأوضاع على الأرض في سوريا. كانت ضربة استعراضية ليس أكثر، تماماً كما هو حال الاستعراض الأميركي في الخليج، بينما الهدف واضح وهو العودة إلى المفاوضات مع طهران.
القفز فوق كل الجبهات
يوحي موقف أعضاء الكونغرس والخارجية أن احتمال تنفيس الإحتقان الذي تنامى على ضفاف الخليج، سيتم في سوريا. ولعل أي ضربة قد توجه إلى مواقع سورية أو إيرانية من قبل الأميركيين أو الإسرائيليين، ستكون بوابة لفتح المفاوضات مع إيران، مقابل أن يُترك للسعودي والإماراتي الرد على ضربتي الفجيرة وأنبوب النفط في اليمن. لا تبدو هذه الآلية الأميركية في "تبريد" الأمور غريبة عن أداء ترامب بشكل عام، الذي بدأ عهده بزيارة إلى الخليج وإعلان قيام تحالف من أكثر من 70 دولة لمواجهة إيران. لكن بعدها سريعاً يعلن توجهه إلى شرق آسيا، وتحديداً نحو كوريا الشمالية. فدخل في حوار مع كيم جونغ أون. لم يصل الحوار إلى أي نتيجة. بعدها يعلن عن نيته الانسحاب من سوريا، من دون الثبات على قرار أو موقف، فغيّر قراره بضرورة البقاء في شرق الفرات. ومن إيران وكوريا وسوريا، انتقل ترامب إلى فنزويلا، ولم يستطع حتى الآن تحقيق أي من الأهداف التي وضعها، بالنسبة إلى الدول الحليفة طبعاً. أما داخلياً فهو يحقق الكثير. عاد ترامب وانتقل من فنزويلا إلى إيران. فتصاعد منسوب التوتر لفترة، وبدأ بالخفوت حالياً، لصالح تجديد الصراع التجاري مع الصين، وإعادة الحديث عن الملف السوري.
ملفات قديمة
وهنا أيضاً لا بد من العودة إلى طريقة التعامل الأميركية مع لبنان. فلم تبدأ المفاوضات حول ترسيم الحدود البرية والبحرية جنوباً بشكل جدّي، إلا بعد حملات إسرائيلية مكثفة ضد حزب الله، والإدعاء بالإستعداد لشنّ حرب شاملة على الحزب، مروراً بالأنفاق التي أعلن الإسرائيليون اكتشافها. فذهبت كل هذه الدعائيات في الهواء، لصالح الاتفاق المبدئي على بدء المفاوضات. ولأن الأميركيين يحتاجون إلى عناوين أخرى تزيد من تشعّب الأمور، كما هو حال استحضار الملف السوري لإبعاد الأنظار عن إيران والخليج، كذلك يفعلون في لبنان وفي ملف ترسيم الحدود. فجأة، فتحوا ملفات قديمة جديدة، عبر رسائلهم للحكومة اللبنانية بضرورة ضبط الحدود والمعابر غير الشرعية بين لبنان وسوريا، والتأكيد على وجوب استلام الجيش اللبناني لكل تلك المعابر. والهدف من ذلك تقديم صورة أميركية ضاغطة على حزب الله، ربطاً بإعادة طرح مسألة سلاح الحزب على طاولة البحث، عبر "الاستراتيجية الدفاعية" والإلتزام بالقرارات الدولية خصوصاً 1701 و1559. لكن النتيجة ستكون واحدة ومشابهة لنتائج الملفات الأخرى. وغالباً ما تكون هذه النتيجة على عكس كل الطروحات التي يتقدم بها الأميركيون. فيلتهي العرب بتصعيد ترامب وخطبه، وهو يستمر في قفزه من ملف إلى آخر، ومن ساحة إلى أخرى، على حسابهم فقط.