يفتعل القادة الإيرانيون الندية العسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية على رغم أنهم يبلغون ناقلي رسائل التهديد إليهم عن أنهم سيلقون ردا عنيفا إزاء أي تحرش عسكري بالمصالح والوجود العسكري الأميركيين، بأنهم يدركون حجمهم قياسا إلى الآلة العسكرية الأميركية، ويطمئنون ناقلي هذه الرسائل بأنهم لا ينوون القيام بأي رد فعل عسكري على العقوبات الأميركية القاسية على اقتصادهم.
لا تمنع الواقعية الإيرانية إزاء المغامرة العسكرية في مواجهة الولايات المتحدة، التي ينقلها أكثر من ديبلوماسي يعرف حكام طهران جيدا وطريقة تفكيرهم، من استخدام البهلوانيات العسكرية في إطار الحرب النفسية أمام الشعب الإيراني، وفي مواجهة الخصوم من العرب والخليجيين. من هذه البهلونيات إعلان طهران أن "الجيش الإيراني يستعد لإرسال قطعا من الأسطول الحربي رقم 62 إلى المياه الدولية، من أجل التصدي للقرصنة في المياه الدولية في مياه خليج عدن"، ثم إعلان "الحرس الثوري" عن "سيطرة إيرانية كاملة على شمال مضيق هرمز وأن السفن الحربية الأميركية في المنطقة تحت السيطرة الكاملة للجيش الإيراني والحرس". والحقيقة أنها سيطرة وهمية هدفها رفع المعنويات لا أكثر لدى الجمهور الإيراني الناقم على ما سببته سياسات "الحرس" من حصار يزيد من تهديد لقمة عيشه.
جاء الإعلان عن الإجراء الإيراني ردا على قول وزير الدفاع الأميركي باتريك شاناهان أن بلاده تستنفر قواها في مياه الخليج "من أجل الردع لا الحرب، وتقتضي مهمتنا التأكد ألا يخطئ الإيرانيون في الحسابات".
طهران اطمأنت إلى محدودية الأهداف الأميركية فمارست "الندية العسكرية" مهددة بالويل والثبور.
لكنها ندية في البهلوانية التي يمارسها الجانب الأميركي أيضا، في ظل إدراك العالم كله أن لا نية لدونالد ترامب للذهاب إلى مواجهة عسكرية على رغم قوله أنه إذا اعتدت إيران على المصالح الأميركية ستكون نهايتها الرسمية.
يستفيد كل من طرفي التفاوض من إدراك كل منهما أن الآخر لا يريد الحرب من أجل التأرجح بين خيارين: طهران تسعى إلى الصمود حتى الانتخابات الأميركية الرئاسية، أو ولوج التفاوض غير المباشر لكن على أجندة مختلفة عن تلك التي وضعها وزير الخارجية مايك بومبيو في النقاط ال12 القاسية التي سبق أن اشترطها على قيادتها. وواشنطن تراهن على التعب الإيراني من آثار العقوبات الاقتصادية التي أخذت تفعل فعلها المؤذي في الاقتصاد والمجتمع، على رغم مكابرة طهران، وبين الإقبال على التفاوض لعله يؤتي ثمارا في الإشراف الأميركي على نظام إقليمي جديد.
يترك الجانب الأميركي منفذا للقادة الإيرانيين، من مؤشراته إعلان بومبيو أن الولايات المتّحدة لم تتوصّل إلى "استنتاج نهائي" حول عمليات التخريب التي استهدفت ناقلات نفط على شاطئ دولة الإمارات، وأنابيب نقل النفط في السعودية، ما يعني تجنب اتهام إيران بأنها وراءها على رغم قول أحد السياسيين الإيرانيين أن هذه العمليات التي اتهم بها الحوثيون، أحد أذرع طهران في المنطقة، جاءت ردا على تدابير ترامب لتصفير تصدير النفط الإيراني. أي أنها مقابل حرمانها من مداخيل النفط بتهديد تصدير نفط حلفاء واشنطن الخليجيين، تجنبا للتعرض للوجود الأميركي في المنطقة على رغم البهلوانيات العسكرية التي توحي بذلك.
وإذا كان صحيحا أن ما حصل قبالة شاطئ الإمارات وفي السعودية يعني أن لدى طهران بدائل عن المواجهة العسكرية للوجود الأميركي، وأن لديها حتى بدائل عن تصعيد الأعمال الأمنية ضد دول الخليج، في أفغانستان والعراق وسورية، فإن إعلانها أنها لا تريد الحرب بالواسطة هو أكثر من بهلوانية سياسية. فهذه الحرب واقعة يوميا في اليمن وفي سورية، ومرشحة لأن تقع في دول أخرى.
مع رجاحة الاستنتاج بأن التفاوض بالنسبة إلى الجانب الإيراني يعني إضعافا للنظام تمهيدا لإسقاطه، هناك في واشنطن وفي طهران من يعتقد بإمكان الجلوس بعد مدة على طاولة التفاوض لكن على عناوين يمكن أن تقتصر على وقف التدخل من "الحرس الثوري" في أميركا اللاتينية ومنها فنزويلا، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، التوصل إلى حل سياسي موقت في اليمن، يؤدي إلى إرضاء المعترضين في الكونغرس على استمرار دعم إدارة ترامب للتحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية، ضمان الدور الأبرز للولايات المتحدة في استثمار ونقل النفط العراقي من أجل التحكم بسوق النفط إنتاجا ونقلا، ووقف تسليح طهران لحلفائها في غزة ولبنان، وأخيرا إعادة التفاوض على الاتفاق النووي من أجل إتاحة تفتيش المنشآت العسكرية...
هل تكتفي طهران بأن يكون المقابل رفع العقوبات عنها أم أنها تنتظر من واشنطن التفاهم معها، على حساب علاقتها بالدول العربية الحليفة؟
قد تكون الدعوة السعودية إلى القمتين الإسلامية والعربية آخر الشهر وسيلة لتفادي ذلك، بالإضافة إلى تشديد العزلة الدولية على طهران في انتظار ما ستقدم عليه.