في الفترة الأخيرة، اختلط الواقعي بالافتراضي في مسألة تمويل «حزب الله»، مع تصاعد الحصار الأميركي على إيران. وتدور أحاديث عن أزمة خانقة يمرّ بها مقاتلو «الحزب» ومؤسساته، وأخبار عن تقليص الحضور والمهمات داخل سوريا، لضرورات مالية لا عسكرية.
وفيما يعترف قريبون من «الحزب» بوجود أزمة، يجزمون أنّه قادر على الصمود طويلاً، ويؤكّدون أنّ في جعبته كثيراً من الخطط البديلة ليحمي نفسه ويضمن استمرار النفوذ… وهذا هو المرجّح.
من بُعد، تبدو القبضة الحديدية الأميركية في وجه إيران وكأنّها ذات طابع سياسي - عسكري. لكنها في الواقع تعتمد المال أكثر. وفي النهاية، سيضطر الإيرانيون إلى الرضوخ تحت الضغط المالي، لا الضغط السياسي- العسكري. فالاقتصاد الإيراني هو الذي يتألّم، وليس الماكينة العسكرية. وأساساً، هذه الماكينة تحتاج إلى المال لتتحرّك.
والضغط المالي هو من خصوصيات أسلوب الرئيس دونالد ترامب. وفي هذا السياق، يتوقع ديفيد بترايوس، الذي كان رأس القيادة المركزية الأميركية ورئيس الـCIA، أن تبدأ إيران التفاوض حول المطالب الأميركية «إن لم يكن هذا العام فبالتأكيد العام المقبل... ما دام سعر العملة سيستمرّ في الهبوط ويتراجع الاقتصاد ويزداد التضخّم».
وهذا الضغط الأميركي ينعكس على القوى المحلية الشريكة لإيران، وأبرزها «حزب الله». وسيكون على «الحزب» أن يحدّ من خسائره، إذا أدّت الصفقة الأميركية- الإيرانية إلى إضعاف النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. والتحدّي الأبرز هو قدرة «الحزب» على تأمين المال، المرتكز الأساسي للنفوذ السياسي والعسكري والأمني.
حتى اليوم، يقيم «حزب الله» نظامه المالي الخاص. ويصعب على أي كان، من خارج هذا النظام، أن يعرف التفاصيل عنه أو يتدخّل فيه. وهذه نقطة القوة الأساسية التي سمحت لـ«الحزب» أن يبقى خارج الرقابة والضوابط. و«استقلالية» النظام المالي، لدى «الحزب»، تنسجم مع استقلاليته أمنياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعياً.
فـ«حزب الله» يقيم لنفسه حصانة خاصة تتيح له المشاركة في النظام اللبناني، وفقاً لمصالحه، وبالمقدار الذي يريده. وفي المقابل، يُحظَّر على النظام اللبناني أن يدخل على «الحزب» أو يتدخَّل فيه. مثلاً، يُسمَح لـ»الحزب» باختراق أي كان وحتى مؤسسات الدولة وأجهزتها أمنياً. ولكن، ليس مسموحاً لأحد أو لأي جهاز أن يقوم بخرقه، تحت أي ظرف.
وهذا الغموض يجعل مستحيلاً تحديد مصادر «الحزب» المالية، بدقّة. لكن المؤكّد أنّ قسماً كبيراً منها يأتي من إيران ومؤسساتها العاملة في العالم. وكذلك، من تبرعات أغنياء الشيعة - وغير الشيعة أحياناً- ومن استثمارات يديرها «الحزب» في لبنان، ضمن مفهوم «الاقتصاد الموازي».
وطبعاً، يتحدث الأميركيون عن شبكاتٍ تدير أعمالاً غير مشروعة يحرّكها «الحزب» في أنحاء مختلفة من العالم، أبرزها في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا. وتركِّز إدارة ترامب ملاحقاتها وعقوباتها على هذه الشبكات، خصوصاً أنّها تخرق النظام المصرفي الأميركي عن طريق بعض المصارف في لبنان والخارج.
وطبعاً، يدافع «حزب الله» عن نفسه بإنكار قيامه بأعمال غير مشروعة. ويؤكّد مسؤولوه أنّ هذه الأعمال منافية أساساً للقيم التي ينادي بها.
المتابعون يقولون، إنّ «الحزب» يواجه اليوم تحدّيات جدّية، لكنه لا يشعر بالقلق على مصيره. فهو نجح في عزل نفسه عن بعض الضغوط المالية والعقوبات التي يتعرّض لها، بحيث لم تنجح العقوبات الأميركية في خنق مصادر تمويله غير المنتظمة. كما أنّ هناك خيارات أخرى يدور النقاش حولها في عدد من الأوساط القريبة من «حزب الله»، تقول بتوثيق الترابط القائم بين «الحزب» والدولة اللبنانية، بحيث يصبح صعباً توجيه أي ضربة إلى «الحزب» من دون ضرب الدولة.
ويرى البعض أنّ الفكرة المفضّلة لدى «الحزب» ربما تكون تطبيق النموذج العراقي في لبنان. فالبرلمان العراقي صوّت في العام 2016 على اعتبار «الحشد الشعبي»، الموالي لطهران، جهازاً رسمياً خاضعاً لسلطة الحكومة، ويحظى هذا الجيش وعناصره بتمويل من الموازنة العراقية. لكن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى نضوج الظروف. فمن جهة، سيكون على «الحزب» أن يوافق على ذلك ضمن طرحٍ متكامل يعتمد الاستراتيجية الدفاعية. وهذا أمر يريد «الحزب» تحقيقه وفق شروطه، بحيث يسلّم سلاحه… لنفسه. كما أنّه يحتاج إلى توافق وطني عام على تخصيص «الحزب» والطائفة الشيعية بهذه الميزة في الدولة، دون سائر القوى والطوائف.
وفي الانتظار، ثمة مَن يعتقد أنّ «الحزب» قادر اليوم، لكونه الأقوى داخل السلطة، على استثمار طاقات الدولة المالية بطرق غير مباشرة وتعويض خسائره المالية. فالإدارة تعيش في جوّ اللارقابة وعمليات التوظيف العشوائي بالآلاف، حيث القوى السياسية قادرة على تشغيل مناصريها وتسجيل رواتبهم على الدولة، بدلاً من أن تتكبّد التكاليف.
وقد رسم «الحزب» خططاً بديلة تمكِّنه من تجاوز أي مأزق مُحتمل في لبنان. وواضح أنّ التفكير في هذه الخيارات بدأ في العام 2015، عندما تدخّل الروس عسكرياً في سوريا وأصبحوا هم حماة النظام، ولم تعد إيران اللاعب الأقوى. ثم في العام 2017، مع وصول الرئيس ترامب إلى الحكم والانطلاق في الحملة على إيران و«الحزب».
وثمة مَن يعتقد أنّ الإفراج في العام 2016 عن صفقة المجيء بالرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري كان جزءاً من هذه الخيارات الاضطرارية.
في هذه الحال، يصبح وارداً التفكير في التحذير الذي أطلقه مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد قبل يومين، من مغبة تورّط لبنان في مشكلات المنطقة. وهذه رسالة واضحة تتعلق بدور «حزب الله».
كما يصبح مبرَّراً التفكير بتحذير بترايوس، في اليوم نفسه، من تماهي الحالتين اللبنانية والعراقية، إذ قال إنّ إيران «تحاول «لبننة» العراق وسوريا واليمن، كما قامت بـ«لبننة» لبنان... وفي كلمات أخرى، قامت ببناء جيشٍ موازٍ قويٍ يمنحها أصواتاً في البرلمان». وفي هذه العبارة أبعاد كثيرة وخطيرة.