هذه الخطوة غير المتوقعة جاءت محيّرة لكثيرين، وأُخضِعت لتفسيرات وتساؤلات حول موجباتها، وما دفع إليها في هذا التوقيت، خصوصاً انّ كوشنر نفسه قال، إنّ الإعلان عن الصفقة سيتم بعد شهر رمضان. وأتبع ذلك بحركة توضيحية وتسويق مضمونها في عدد من المنابر الدولية. وكانت ما زالت مستمرة حتى ما قبل ايام قليلة؟
تلفت مصادر ديبلوماسية، إلى انّ ما صرّح به كوشنر، للصحيفة الفلسطينية، لا يشكّل تراجعاً عن الصفقة» بمقدار ما يندرج في إطار التكتيك التسويقي، الذي يتحيّن اللحظة المناسبة للإعلان عن الخطة وفرضها، في اعتبارها أمراً واقعاً. ومن هنا كان حرصه على استخدام عبارة «حتى إشعار آخر»، بكل ما تحمله من التباسات، تجعل اللحظة المؤاتية لتكريس «صفقة القرن» ممكنة في أي توقيت مُحتمل، الأكثر ترجيحاً فيه هو مؤتمر المنامة، الذي تبارت بعض دول المنطقة في التسويق له أكثر من عرّاب «الصفقة» نفسه.
وتقول المصادر، إنّ الاميركيين يدركون جيداً، مكامن الضعف لدى الفلسطينيين، أو بعبارة أدّق لدى السلطة الفلسطينية، وهو العامل الاقتصادي، الذي يبدع ترامب وصهره في فهم مكامنه، تماماً كما يدركه الاسرائيليون، الذين خنقوا الاقتصاد الفلسطيني لسنوات طويلة. وانطلاقاً من «الصفقة» نفسها يمكن فهم حقيقة تلك الأهداف. فالولايات المتحدة وإسرائيل عمدتا، بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الماضية، إلى فرض ضغوط مالية على السلطة الفلسطينية، التي لا تزال المعارضة قوية في صفوفها لـ«خطة السلام» الأميركية.
من هنا، تضيف المصادر، فإنّ التخفيضات الحادّة في المساعدات الأميركية للفلسطينيين في العام الأخير، على سبيل المثال، لا يمكن النظر إليها إلاّ باعتبارها محاولة لدفعهم الى قبول «صفقة القرن» التي تُعدّ لها الولايات المتحدة.
لكن ما تلحظه المصادر الديبلوماسية في هذا السياق، هو انّ سلاح الاقتصاد المشهور أميركياً وإسرائيلياً لا يُستخدم ضد الفلسطينيين وحدهم، بل ضد كل الدول العربية المعنية بالقضية الفلسطينية مباشرة، ابتداءً من الأردن، الذي نشرت الصحافة الأميركية معلومات عن لقاءاتها بمسؤول لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي قبل أشهر، وأعرب عن استيائه الشديد بسبب عدم إحاطته علماً بتفاصيل «صفقة القرن».
تقول المصادر، إنّه أمر مثير للعجب فعلاً، ان يُضغَط على الأردن، وهو البلد الذي يُعدّ تاريخياً من أقرب حلفاء الأميركيين حين يتعلق الأمر بالتسويات ـ والتنازلات - في القضية الفلسطينية، ما يقود إلى استنتاج جوهري، مفاده أنّ شروط «صفقة القرن» تبدو أكبر بكثير من قدرة الأردن نفسه على القبول بها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بوضع القدس، في اعتباره آخر ما يحفظ ماء وجه المملكة الهاشمية «المؤتمنة» تاريخياً على المقدسات.
ومع ذلك، فإنّ مهندس «صفقة القرن» ربما يمسك الملك عبدالله الثاني من اليد التي تؤلمه للقبول بالصيغة المطروحة دون أي تعديل. فالأردن، الذي يستضيف نحو مليوني لاجئ فلسطيني، يتعرّض لضغوط اقتصادية كبيرة للقبول بالصفقة، وهامش مناورة عند الملك الأردني ضيّق، فاقتصاده على شفير أزمة كبرى (تُقدّر قيمة الدين العام بـ39.9 مليار دولار، ونسبة البطالة بنحو 20 في المئة)، ناهيك عن أزمة المياه التي تواجهها البلاد، والتي وصفها أحد المحللين بأنّها الأسوأ عالمياً.
من هنا، تقول المصادر، إنّ جاريد كوشنير يمكن أن يقدّم للأردن مغريات كبرى للقبول بـ»صفقة القرن»، ليس من جيب الأميركيين بالطبع، وإنما من جيوب الآخرين، وتحديداً من الخليج.
الأمر نفسه، تقول المصادر، ينسحب على مصر، التي تواجه منذ سنوات أزمات اقتصادية متلاحقة، لم تخفف من وطأتها الإجراءات المؤلمة التي اتُخذت بالوصفات المعروفة لصندوق النقد الدولي، خصوصاً أنّ تلك الإجراءات ساهمت في زيادة الدين العام الخارجي، وهو كما بات معروفاً منذ سنوات، دين سياسي، يمكن المساومة عليه، على غرار ما فعل حسني مبارك، حين اتخذ قرار المشاركة في حرب الخليج الأولى عام 1991.
أما في لبنان، والكلام للمصادر الديبلوماسية، فالحال ليس أفضل. فإغراق هذا البلد بالأزمات الاقتصادية والمالية، ناهيك عن تشديد العقوبات على «حزب الله» يُعدّان أيضاً أداةً لفرض حلول كارثية للقضية الفلسطينية، سواء في ما يخصّ توطين اللاجئين الفلسطينيين، وربما جزء من السوريين لتحقيق التوازن الطائفي المطلوب، في مقابل إغراءات مالية، تجنّب البلاد الانهيار الكامل، الذي يحوم شبحه حول مواطنيه.
من هنا، وبحسب تقدير المصادر، يمكن توقّع أنّ «صفقة القرن» ستبدأ في الاقتصاد قبل السياسة. والمؤتمر الذي ستستضيفه العاصمة البحرينية، المنامة، في 25 و26 حزيران المقبل، والذي سيجمع عدداً من وزراء المالية بمجموعة من الاقتصاديين البارزين في المنطقة العربية ـ مع وجود معلومات عن مشاركة وزير الاقتصاد الاسرائيلي موشيه كحلون ـ سيشكّل نقطة البداية للتنفيذ، وربما الإعلان الصريح عن الخطة المقترحة.
وتختم المصادر: «شعار المؤتمر، وهو «السلام من أجل الازدهار»، يشي بذلك أيضاً، والإعلان الرسمي عنه يلامس شعار «صفقة القرن». فهو «فرصة محورية لاجتماع قادة الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني وقطاع الأعمال، لتبادل الأفكار والرؤى ومناقشة الاستراتيجيات لتحفيز الاستثمارات والمبادرات الاقتصادية الممكنة مع تحقيق السلام... وتبادل الآراء والأفكار من خلال طرح مستفيض لرؤى طموحة وأطر عمل تنفيذية من أجل مستقبل مزدهر للشعب الفلسطيني وللمنطقة». وإذا ما اقترن الاقتصاد بالسياسة، وهذا الاقتران هو من البديهيات، فإنّ المؤتمر الذي يسعى من ضمن أهدافه الى تحفيز الاستثمار في فلسطين، يبقى من دون معنى إذا تجاهل خلق بيئة استثمارية، وهذه البيئة الاستثمارية، لن تنشأ من دون حل سياسي من خلال «صفقة القرن»!