نجح وزير الخارجية جبران باسيل في تنفيذ ما يريد. لم يبق وزير إلا وأكد منذ أسبوع بأن البحث في الموازنة انتهى، إلا باسيل الذي كان يرفض ذلك قائلاً: "لم نصل إلى النقاش الحامي بعد". كان واضحاً أن باسيل يخفي مفاجآت عديدة، بعضها تقني وبعضها الآخر سياسي، عبر إظهار دوره الفاعل في إنجاز الموازنة كما يريد. كان باسيل أول من اتخذ موقفاً حول ضرورة تخفيض الرواتب والأجور وفرض ضرائب، فدخل لبنان في إضرابات، وبعدها تنصّل باسيل من مسؤولية ذلك، ليبقى رئيس الحكومة سعد الحريري وحده في مواجهة الشارع واحتجاجاته.
القفز على الصلاحيات
لا يترك باسيل مناسبة، إلا وينتهزها ليؤكد للجميع بأن الأمر له وحده، وهذه ممارسات يستخدمها لتأكيد هذه الفكرة ليس لخصومه فقط، بل أيضاً في حسابات داخل التيار الوطني الحرّ، وفي صفوف المقربين من رئيس الجمهورية. وكما هو فاعل في موضوع الموازنة المالية، فهو أيضاً سعى إلى تكريس سابقة في تاريخ المؤسسات، عبر القول إن ما يتعلق بالتدبير رقم 3 أو مخصصات ورواتب العسكريين هي من صلاحية المجلس الأعلى للدفاع. وهذا يعني ضمناً القفز فوق سلطة مجلس الوزراء وصلاحياته، وستعني مستقبلاً أن كل ما يتعلق بالملفات الأمنية في البلد هي من صلاحيات المجلس الأعلى للدفاع، والقائد الأعلى للقوات المسلحة هو الذي يبت في هذا الأمر، أي رئيس الجمهورية. وهذا أيضاً قفز فوق صلاحيات الحكومة مجتمعة.
الثأر من رياض سلامة
أسباب كثيرة تدفع باسيل إلى تأخير إنجاز الموازنة، ولكن السبب الأساسي لها، حسب ما تؤكد مصادر متابعة، أن باسيل كان قد اتفق سابقاً مع الرئيس سعد الحريري على تخفيض الرواتب بنسبة 15 بالمئة، لكن رئيس الجمهورية لم يوافق على ذلك، فاعتبر الحريري أنه تعرّض للخذلان. وهنا كانت الدولة بحاجة إلى حوالى 11 ألف مليار بشكل سريع، لتسديد مستحقات الدين العام. وكان التيار الوطني الحرّ يشنّ هجوماً عنيفاً على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلا أن وزير المال علي حسن خليل وبالتوافق مع الحريري، ذهبا إلى اتفاق مع سلامة على توفير هذه الأموال اللازمة بفائدة واحد بالمئة فقط، لأن هذه الأموال ضرورية لإراحة المالية العامة بضعة أشهر، ريثما تكون الإجراءات التطبيقية للموازنة التقشفية قد بدأت. وهذا يعني أن معركة باسيل وتياره ضد سلامة، انتهت لصالح الأخير، باتفاق بينه وبين المصارف ووزير المال ورئيس الحكومة، ما دفع باسيل إلى الرد بهذه الطريقة عبر طرح موازنة بديلة.
عمل باسيل على إحراج الجميع، وحصرهم في الزاوية. وما كان يُتهم به بأنه يعمل على تأخير إنجاز الموازنة، وهذا التأخير غير مبرر، أصبح باسيل قادراً على وضعه في صالحه، باعتبار أن الاقتراحات التي يتقدم بها تؤدي إلى تخفيض العجز، ما يعني أن الموازنة التي يعتبر وزير المال أنها أصبحت منتهية، هي موازنة غير جدية. ولذلك لا يوافق عليها وزير الخارجية. هكذا، وضع باسيل خصومه في خانة واحدة، وهي أن الموازنة التي جرى إعدادها فيها ثغرات، والدليل أن اقتراحاته تؤمن المزيد من التقشف، وتسهم في تخفيض العجز. وهذا ما جاء على لسان وزير الإعلام جمال الجراح بعد جلسة الأربعاء، معتبرأ أنه تم تخفيض العجز من 7.62 إلى 7.5، وأشار الجراح إلى أن الحريري رفع الجلسة من دون أي خلافات، وأعطى مهلة 48 ساعة لاستكمال البحث عن إجراءات أخرى.
صورة المنقذ!
بمجرد أن يعلن وزير الإعلام تحقيق المزيد من التقدم حول تخفيض العجز أكثر فأكثر، فهذا يعني أن لدى باسيل التبريرات اللازمة للإستمرار في تقديم مقترحاته. وبذلك، تتحول كل الجلسات السابقة لطرح باسيل لمشروعه بوصفها كانت جلسات مضيعة للوقت. ويظهر باسيل نفسه منقذ الجمهورية وماليتها. وبالنظر إلى الاقتراحات التي يتقدم بها باسيل، فهو لم يقرب بأي شكل من الأشكال من الرواتب والأجور حتى الآن. وهذا يعني أنه حين رمى حجراً في المياه الراكدة، معلناً عن إجراءات صعبة وقاسية تنتظر الموظفين واللبنانيين لإقرار موازنة جدية وجيدة، كان يهدف إلى إصابة هدف آخر، وهو أن يتقدم بهذه الاقتراحات التي لا تطال الرواتب والأجور والتعويضات، وبذلك أيضاً سيقدّم نفسه حريصاً على حقوق المواطنين والموظفين، ولجأ إلى سد مسارب هدر وفساد وإقفال مؤسسات لا عمل لها.
صحيح أنه حتى الآن لم يتم الوصول إلى تخفيض الرواتب والأجور، لكن بعض البنود في الموازنة، كرفع الضريبة بنسبة 2 بالمئة على المواد المستهلكة، فهي تمثّل خفضاً غير مباشر للأجور، لأن لبنان بطبيعته مجتمع مستهلك غير منتج، ما يعني أن الضريبة التي فرضت ستطال أغلب احتياجات اللبنانيين، ولكن الفارق بأن الضريبة أطلق عليها اسم "ضريبة على المواد الكمالية المصنعة في الخارج"، وفي معناها الحقيقي أنها رفع للضريبة على القيمة المضافة (tva).
توافقية الحريري
أيضاً، يرمي باسيل إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال طروحاته، فهو يعتبر أنه لا بأس بتأخير الموازنة، طالما أن النتيجة ستكون جيدة جداً على الخزينة اللبنانية، وبإمكان لبنان أن ينتظر أياماً لإنجاز هكذا موازنة نوعية، وبالتالي ليس هناك من ضرورة للإستعجال، وإلى جانب تقديم نفسه بصورة منقذ المالية ورواتب الموظفين والعسكريين، فهو أيضاً بطريقة أو بأخرى، يعمل على طمأنة المصارف من خلال الطروحات التي يتقدم بها، عبر عدم ذهابه باتجاه فرض ضرائب على فوائد الودائع المصرفية، وبذلك يكون قد كسب الطرفين معاً، وطالما أن الأمر يرضي المصارف، فهذا يعني أنه يرضي أيضاً رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يحرص على عدم إغضاب باسيل أو معارضته، وعدم إغضاب الآخرين أيضاً، ولذلك دعا إلى عقد اجتماع وزاري مصغر قبل الجلسة، للبحث في التوفيق بين وجهة نظر باسيل ووجهة نظر وزير المال، لكن باسيل بقي مصراً على موقفه، فيما خليل اعتبر أن الموازنة انتهت.
محاولة الحريري لجم التوتر لم تنجح، إذ انعكس التوتر طوال مجريات الجلسة، بين معظم الوزراء من جهة، وباسيل من جهة أخرى. لكن بلا شك، رئيس التيار الوطني الحر هو الذي يتحكم بالكلمة الفصل على طاولة مجلس الوزراء. فقبل أيام، كان قد تعمّد تسريب خبر استعداد وزرائه لتقديم استقالاتهم، إذا لم تكن هناك جدية في مناقشة الموازنة. وباسيل الذي "يمتلك" 11 وزيراً في الحكومة، قادر على فرطها أو على عرقلة عقد أي جلسة من جلساتها، ما يضع الجميع في خانة الرضوخ له، ويجعل من الحريري أسيره الدائم طالما هذه الحكومة موجودة.
ولباسيل أيضاً هدف بعيد المدى من تشدده حيال الموازنة، وهو على الأرجح سيتشدد في موازنة هذا العام والعام المقبل، لتوفير أكبر قدر من التقشف وتخفيض العجز، خصوصاً أن هاتين الموازنتين بعيدتين عن موعد الانتخابات. وبالتالي، لا حاجة شعبوية أو انتخابية للإسراف المالي في الوزارات، فالتشدد حالياً سيوفّر قدرة على التساهل بعد سنتين، أي في السنة التي تسبق الانتخابات النيابية، والتي ستكون الوزارات فيها بحاجة إلى رصد مالي مرتفع لإسداء الخدمات الانتخابية.