عندما يقول طرفا الصراع أنهما لا يريدان الحرب فهذا لا يستبعدها وإنما يحاول توجيهها وإيجاد تفاهم ضمني على قواعد الاشتباك فيها. حتى في الحرب النفسية، يسعى كل طرف إلى أن تكون له الكلمة الأخيرة التي تبقى في الأذهان. لم يكتفِ دونالد ترامب ولا علي خامنئي بالقول فقط أنه "لا يريد الحرب"، بل أتبع ذلك بعبارة مشحونة بالتحدّي والاستفزاز، فالرئيس الأميركي استخلص بأن الايرانيين "سيتألمون جداً (إذا هاجموا)"، وانتهى المرشد إلى أن الأميركيين يعرفون أن الحرب "ليست في مصلحتهم". وبعدما تشارك وزير الخارجية وقائد "الحرس الثوري" الإيرانيان في بثّ شعار أن "أميركا لن تجرؤ على مهاجمتنا" ردّ ترامب بأنه إذا أرادت ايران القتال فستكون "النهاية الرسمية" لها، وزاد "لا تهدّدوا أميركا بعد الآن"، وردّ عليه محمد جواد ظريف بالمثل "لا تهدّد إيران أبداً".
قد تعكس مراقبة لغة التخاطب العلني مدى الجمود أو التقدّم في التواصل غير العلني في شأن "التفاوض". وهذا خيار يريده الطرفان غير أن طهران لا ترى في الظروف الراهنة ما يساعدها على قبوله واعتماده. وفيما تنتظر واشنطن "اتصالاً هاتفياً" إيرانياً لن يأتي، أو ردّاً على رسالة عبر عُمان، تعمل طهران على أكثر من خطّ، منها:
أولاً، محاولات تبقى غير مجدية لامتصاص الضغوط عليها، فمن جهة أضعفت العقوبات الأميركية موقفها إلى حدّ كبير وإن لم تصرّح به، ومن جهة أخرى وضعتها الاستعدادات العسكرية الأميركية أمام واقع مواجهة طالما تمنتها عندما كانت أكثر تعافياً اقتصادياً، ومع أن المواجهة لا تزال ممكنة في نظرها إلا أن حساباتها اختلفت، فالمغامرات وأعمال التخريب تشكّل سجالاً مكلفاً قد يطول لكنها لا تصنع نصراً عسكرياً يمكن البناء عليه.
ثانياً، محاولات أخرى سعياً إلى بلورة فريق (تحالف) دولي مستعدٍّ لمساعدتها في كسر العقوبات أو لنصرتها في مقارعة الولايات المتحدة. فعلى مدى شهور طويلة روّجت إيران أن أميركا في عزلة دولية وأن هيمنتها تتراجع وتوشك أن تبلغ نهايتها، وقد تكون توهّمت ذلك أو استنتجته من اتصالاتها مع عواصم أساسية، لذلك اعتبرت أن لحظة نشوء حلف دولي يواجه أميركا حانت الآن، لكنها اصطدمت بحقيقة أن حجم الكره والعداء لأميركا يضاهي الازدراء لسياسات إيران عموماً، وبالتالي لا يرقى إلى الاصطفاف معها.
ثالثاً، تعامل إيراني مرتبك مع نصائح ملتبسة بترجيح التفاوض، فالمجتمع الدولي لا يريد حرباً في المنطقة، وحتى لو لم يكن يقرّ أساليب ترامب إلا أنه يأخذ في اعتباره أن الرئيس الأميركي ذهب في التصعيد مع كوريا الشمالية إلى أقصاه ثم نزع فتيل المواجهة وبدأ يفاوضها مع تشديد العقوبات عليها. وكما في النزاع الكوري كذلك في النزاع الإيراني تسعى روسيا والصين ودول أوروبية إلى مصالحها أولاً. قد تضمر هذه الدول تمنياتٍ بأن تتلقى أميركا هزيمةً ما وقد تظهر بعض التعاون مع إيران، لكنها ستحرص في كل الأحوال على مصالحها مع أميركا. هذا واقع دولي قديم - جديد تعرفه طهران وظنّت أنها توصّلت إلى تغييره بمجرد إغلاق أبوابها أمام واشنطن أو بسجن نفسها في عقائديتها القاتمة أو أيضاً باستمالتها وتشغيلها أتباعاً بائسين في العراق وسورية واليمن ولبنان.
رابعاً، وهذا الأهم مرحلياً أن طهران أدخلت نفسها في "منطق الحرب" الذي ترى فيه اختباراً لكل ما استثمرته عسكرياً، داخلياً في "الحرس" وخارجياً في الميليشيات التي فرّختها، وعلى رغم حرصها على الظهور كدولة تحترم رغبة المجتمع الدولي في استبعاد الحرب إلا أنها أكثر حرصاً على إثبات نفسها حربياً كوسيلة لتأكيد ما تدّعيه من "نفوذ" إقليمي. ولأجل ذلك فهي تناور حالياً لفرض قواعد الاشتباك التي تناسبها، بحيث لا يكون هناك استهداف إيراني مباشر لقوات أميركا ومصالحها مقابل أن تحافظ إيران على حرية التصرّف ضد دول إقليمية حليفة للولايات المتحدة. فمن جهة تواصل طهران استراتيجية التخريب وكأنها لم تتأثّر بالضغوط الأميركية، ومن جهة أخرى تضع الردع الأميركي وأهدافه وردود فعله أمام اختبار. وقد تمثّل هذا التكتيك في تفجير السفن الأربع في المياه الاقتصادية الأميركية ثم في تدمير جزئي لأنابيب ضخ النفط في السعودية بطائرات مسيّرة أطلقت باسم الحوثيين ثم بإطلاق صاروخ "كاتيوشا" لترهيب السفارة الأميركية في بغداد... والمتوقع أن يتواصل مثل هذه العمليات من دون أن يصل إلى مستوى الحرب ولا مستوى "نصرٍ" ما لإيران.
الأكيد أن خيارَي الحرب أو التفاوض باتا متساويين في الصعوبة بالنسبة إلى خامنئي، وإذا كان سلفه الخميني تجرّع مرغماً "كأس السمّ" لإنهاء الحرب مع العراق قبل31 عاماً فإنه قد يجد نفسه مضطراً إلى كأس مماثلة بالموافقة على التفاوض من دون حرب. لا شك أنه سيتمنّع لكن الظروف لا تسمح له بالمجازفة، فالخميني تمنّع أيضاً وبدا معذوراً في النهاية لأن الحرب دمّرت الاقتصاد ولم تسفر عن نصر بل لعله وجد عزاءً في أن الحرب دمّرت أيضاً الاقتصاد العراقي، أما خامنئي فيرى بأم العين ما فعلته العقوبات باقتصاد إيران "من دون حرب" ولن يعذره الإيرانيون الذين أذاقهم صنوفاً شتّى من المعاناة إذا لم يتخذ القرار الصحيح. لا بدّ أن المرشد لم ينسَ بعد أن الاحتجاجات الشعبية جهرت بكل ما في الصدور ضد تدخّلات إيران خارج حدودها وصنّفته دكتاتوراً وهتفت بإسقاطه وموته، ومع أنه تجاهلها وبارك قمعها إلا أنه أدرك مغزاها، فأهمية "الانتصارات" الخارجية تتضاءل أمام الإخفاقات الداخلية.
هناك الآن أزمة ولا تستطيع إيران إنكارها بالمكابرة أو بالتحايل على الوقائع، وكانت دعوة وزير الخارجية البريطاني إيران إلى "التفكير مليّاً في عزم الأميركيين" تعكس شعوراً دولياً بأن انفصال طهران عن الواقع قد يدفعها إلى التهوّر. فأي حرب تجنح إليها لن توقف هبوط عدّاد صادراتها النفطية وصعود عدّاد التضخّم ومؤشرات الغليان الاجتماعي بل تضاعفهما، كما أن مواصلة السياسات ذاتها كأن شيئاً لم يكن لم تعد خياراً واعياً. وإذ يتضح الأفق فإن الحرب التي كانت لا مفر منها صارت تفاوض لا مفرّ منه، أما الذهاب إلى حرب رمزية لفتح الطريق التفاوض فليس مضمون العواقب خصوصاً إذا حاولت إيران تنفيذ تهديداتها الدائمة باستهداف أوسع لمنطقة الخليج.
أما لماذا يبدو خيار التفاوض "كأس سمٍّ" لخامنئي فلأنه سيشكّل نهاية مراهنات إيران على خلافات الدول الكبرى مع الولايات المتحدة، وعلى إمكان اللعب على تناقضات داخل الإدارة الأميركية وبينها وبين الكونغرس، إذ استبقها ترامب برفضه الحرب من دون أن يمنع إدارته من درس كل الاحتمالات والسيناريوات. وحتى في هذه التناقضات فإن مَن لا يريدون الحرب يؤيّدون بشدّة أن تغيّر إيران سلوكها بعدما أظهرت تشدّداً في رفض تطبيع العلاقات مع أميركا وعجزت عن التعامل مع الجمهوريين والديموقراطيين على رغم الفوارق بين نهجَي ترامب وباراك أوباما.
لكن الأهم بالنسبة إلى خامنئي أنه يعرف مسبقاً أنه يصعب عليه فرض شروطه على التفاوض، فالوقت لم يعد في صالحه. وإذا استعرض المرشد ملفات التفاوض، استناداً إلى النقاط الـ 12 التي عرضها مايك بومبيو، فإنه سيكون مضطرّاً لأن يقدّر مسبقاً ما يمكن أن يخسره ومدى استعداده لهذه الخسارة، من الملف النووي إلى البرنامج الصاروخي، ومن أنشطة "الحرس الثوري" و"حزب الله" و"الحشد الشعبي" إلى دعم الإرهاب بإيواء تنظيم "القاعدة" والتنسيق مع "داعش"، ومن التدخّل في العديد من البلدان العربية وأفغانستان وغيرها إلى زعزعة الاستقرار في عموم الإقليم. هذه سلوكات لا يمكن اختزالها بـ "محاربة الاستكبار" أو بـ "مقاومة إسرائيل"، ولا يمكن أن تؤهّل إيران كقوة معترف بضمانها للسلم والاستقرار الاقليميين، بل تبقى قوّة تخريبية مطالبة بتغيير سلوكها، يتساوى في ذلك أن تأتي هذه المطالبة من الولايات المتحدة أم غيرها.