لا أحد في دول المنطقة يريد حربا بين واشنطن وطهران، كما لا يريد أي عراقي أن تكون أرضه ساحة لها فما زالت جراح الحروب لم تلتئم بعد، خصوصا الحرب مع إيران ونظامها الذي كانت أهدافه واضحة في احتلال العراق وقد تحقق له هذا الهدف في ما بعد دون أثمان باهظة بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003.
ولم يعد من الأسرار ذلك التنسيق الذي تم بين طهران وواشنطن قبل الاجتياح في شهادة السفير الأميركي الأسبق ببغداد، زلماي خليل زادة، أو في انتقادات الرئيس الأميركي الحالي لأسلافه بتسليمهم العراق لإيران عبر دعم المعارضين الشيعة السابقين، وتسليمهم السلطة ببغداد بعد تفتيت دولة العراق وجيشها الوطني.
المسؤولون في واشنطن كانوا يعلمون القدرات السياسية المتواضعة لهؤلاء في إدارة دولة العراق الجديدة، لكنهم استبعدوا ورفضوا مشاركة النخب السياسية الوطنية غير الطائفية المعارضة لصدام حسين من العرب السنة، وكانوا يعلمون أن غالبية تلك الزعامات الشيعية موالية لطهران وفي مقدمتها حزب “الدعوة” الذي مُنح الحكم لثلاثة عشر عاما كانت نتائجها الفشل والفساد ونهب الأموال والثروات والفوضى والاستبداد وقسوة الظلم الطائفي واجتياح “داعش” لثلث أراضي العراق.
أصبح المواطن العراقي البسيط غير مصدّق لما تتناقله الأخبار من تجييش للأساطيل الأميركية في الخليج لم يشهده منذ حرب العراق 2003، واحتمالات حصول حرب بين واشنطن وطهران.
لكن من يعرفون قيادات ملالي إيران جيدا يشيرون إلى أن ما حصل هو أن الولايات المتحدة تعرضت إلى مخادعة مررتها طهران ضد واشنطن، حين أخفت نواياها في الانفراد بالعراق والهيمنة على مقدراته السياسية والاقتصادية إلى درجة التقاطع مع المصالح الأميركية العليا، حيث صادرت إيران، عبر مواليها ووكلائها الذين تكاثروا وتنافسوا في الولاء العقائدي، كل ما صرفته واشنطن داخل العراق من مليارات الدولارات لبناء مختلف الفعاليات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، لتتحول، فيما بعد، إلى أسلحة موجهة ضد واشنطن اليوم.
لكن طهران توهمت في ذات الوقت بأن طرق وأساليب محافظتها على مكاسبها في لبنان وسوريا والعراق خاصة تتم عبر فتح ساحة المواجهة العقائدية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، اعتمادا على نظرية “تصدير الثورة” والحفاظ عليها في هذه البلدان من خلال الوكلاء دون مبالاة بما تتعرض له شعوب هذه البلدان من كوارث وويلات، ليصبح أبناء هذه الشعوب وقودا وفداء للولي الفقيه، مع أن الوقائع تقول بأن هذا التسويق العقائدي للصراع والحرب ضد أميركا وإسرائيل هو كذبة كبيرة.
فعلى سبيل المثال صرح وزير الدفاع الإيراني الأسبق محمد فروزنده بأنه “لا يوجد عداء عقائدي بين إيران وإسرائيل وأن كل ما في الأمر في هذه الضجة هو عدم قبول أي تفوق عسكري إقليمي في منطقة الشرق الأوسط يفوق التفوق العسكري الإسرائيلي سواء أكان إيران أو غير إيران”.
وضمن لعبة الحرب العقائدية المزعومة فإن طهران توحي لأنصارها بأنها قائدة لمعسكر الممانعة ضد الاستكبار العالمي، وقد صدّق بعض المغفلين ذلك، في حين أنها تتوسل الآن بالباطن لوكلائها في العراق والمنطقة للتوسط مع واشنطن، إلى درجة إن حكومة بغداد صدّقت بأنها قادرة على لعب دور الوسيط وأرسلت بعض مسؤوليها للقيام بهذه المهمة، كما سارع مجلس الأمن القومي الإيراني قبل يومين إلى توبيخ رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه، لأنه دعا إلى عقد مفاوضات إيرانية أميركية في قطر أو بغداد، لأن هذا التصريح يكشف حقيقة تشبث النظام الإيراني بأي قشة تنقذه مما هو فيه.
خلاصة القول إن إيران تجاوزت حدودها المنطقية كدولة عليها احترام سيادة الدول، وإن لعبة الحرب والتوسع بالوكالة لم تعد مقبولة. ودول الخليج لها مصالحها في حماية أمنها القومي الذي يتعرض للخطر ومن حقها اختيار مختلف الخطوات لتأمين مصالح شعوبها العليا، والعراق بشكل خاص يتعرض لمخاطر جدّية بسبب هذا الانحياز لطهران.
لعبة إيران هي محاولة انتزاع إذعان أميركي بقوتها في المنطقة في خطين متوازيين، الأول هو الاتفاق النووي الذي خرج منه ترامب وخسرته طهران، والثاني هو الاعتماد على إمكانيات وكلائها في بناء نقاط عسكرية لوجستية داخل الأراضي العراقية بعد انكشافها في سوريا عبر الضربات الإسرائيلية المتوالية دون رد إيراني.
وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو كان واضحا في طلباته من رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي وتحميله المسؤولية في معالجة ومراقبة الميليشيات التابعة لطهران، ومنعها من الإقدام على أي مغامرة بعد أن قدم له الوثائق التي تثبت نصب مواقع للصورايخ متوسطة المدى، كما عبّر له بأنه لا يتوقع انحيازا من حكومته إلى جانب واشنطن لكنه يطالبه بالتزام الحياد، أي التخلص من الانحياز لطهران.
ولا يشك أحد بأن إسرائيل هي خارج الانضباط، وستوجه ضرباتها للمواقع المعنية داخل العراق إن وجدت فيها تهديدا لأمنها. وبغض النظر عن المواقف الدبلوماسية للرئاسة والحكومة العراقية التي تنادي بضرورة العمل على قيام “حوار إيجابي” لحل الأزمة، فإن المشكلة الحالية هي مدى التزام الفصائل المسلحة الموالية لطهران بالانحياز لمصالح العراق العليا وعدم الانحياز لإيران وتنفيذ طلباتها اللوجستية العسكرية إذا ما تعقدت الأمور، ففي جميع المقاييس الوطنية العراقية والشرعية “الشيعية” ينبغي ألا يكون العراقيون أداة للغير في معركة أو حرب ليست حربهم بل هي حرب بين دولتين خارجيتين.
أليس الموقف الاستقلالي هو الذي سيجنب العراق كوارث جديدة، وهو موقف طبيعي وسهل التطبيق، فهذه الفصائل ينبغي أن تخضع لمواقف حكومة العراق التي تعلن أنها بمنأى عن صراع الغير، وشرعيا وشيعيا لماذا لا يخضع هؤلاء “العقائديون” لتعليمات وتوجيهات المرجع الشيعي العالمي في النجف علي السيستاني وهو الذي طلب من مريديه وساسة العراق جميعا الخروج من فلك الانحياز لأي من الطرفين الأميركي أو الإيراني، لكنهم يأتمرون بتعليمات مرجع قم وطهران، أليست شيعية النجف أكثر قربا للعراقيين من غيرها؟
ومع الاحترام للعقائد وطرق ومسالك مريديها، هل تقول هذه العقيدة أو تلك بحرق الوطن وهو مصدر الولاء الأول وصاحب النعمة والخير الوفير والجاه والرفاه لكل هؤلاء السياسيين “العقائديين”. إن الرابح الحقيقي في هذه المرحلة الحساسة هو من يقف إلى جانب أمن وحماية وطنه أولا وليس إلى جانب الغير، وهذا ليس خيارا أو اجتهادا، بل هو التزام وطني.