لم تنكشف بنود «صفقة القرن» في شكل واضح. لكن هناك تسريبات وافرة لها في صحف أميركية وإسرائيلية وفلسطينية، في الأشهر الأخيرة. والأرجح أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب غير منزعجة من هذا التسريب التدريجي للبنود، بحيث يتمّ اختبار ردود الفعل لدى الجهات المعنية وامتصاص الرفض. فعندما تُعلَن بنود الصفقة رسمياً وبالكامل، سيكون الجميع في أجوائها وستُقابَل بأقلّ ما يمكن من الاعتراضات.
وفق ما سُرِّب، تُقدِّر «الصفقة» عدد اللاجئين الفلسطينيين عموماً، بما بين 30 ألفاً و60 ألفاً، فقط لا غير. وهؤلاء هم الذين ستسمح لهم إسرائيل بالعودة إلى مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية في الضفة أو في قطاع غزة... إذا رغبوا هم في ذلك وسمح لهم العمر.
فالذين يحتفظون بصفة «لاجئ»، وفق المفهوم الإسرائيلي، هم فقط الذين غادروا فلسطين في العامين 1948 و1949، من دون أولادهم وأحفادهم. وهذه الفكرة يعمل الإسرائيليون على إقناع المجتمع الدولي بها، وتطبيقها على مستوى وكالة «الأونروا»، منذ مدّة طويلة، بحيث لا تعود هذه المنظمة في حاجة إلى مقدار كبير من الدعم المالي. يكفي تغطية بضع عشرات من آلاف اللاجئين.
وفق هذا المفهوم، تفقد «الأونروا» مبرّر وجودها في 3 حالات: إما بصفقة التسوية الكبرى، وإما بوفاة آخر نازح غادر فلسطين، قبل 71 عاماً… وإما بتحويل طبيعة عمل المنظمة لتصبح في خدمة النازحين وأولادهم وأحفادهم ليستقروا في بلدان توطينهم. وهذا يعني إفراغها من عنوانها الأساسي، أي الحقّ في العودة. وهؤلاء الأولاد والأحفاد سيتم توطينهم في بلدان الشتات ومنحهم جنسياتها.
ولكن، واقعياً، في ظل هذا المفهوم، لن يعود إلى مناطق الحكم الذاتي إلا عدد قليل جداً من النازحين. لماذا؟
لأن نازحي 1948 و1949 بلغوا اليوم أعوامهم الأخيرة من العمر، وهم لم يعودوا قادرين على العيش من دون أولادهم وأحفادهم. وهم لن يتخلّوا عنهم ويذهبوا وحدهم إلى فلسطين، بلا عمل ولا أماكن إقامة ولا ملكية، ليمضوا هناك آخر العمر وحيدين مستفردين. وأساساً، ما هو مبرِّر عودتهم في هذه الحال؟
إضافة إلى ذلك، المناطق الفلسطينية - وفق الصفقة - لن تحمل مواصفات «الدولة». وستكون هناك منطقة حكم ذاتي في غزة، ترتبط بخط مواصلات مع مناطق الحكم الذاتي في الضفة الغربية، حيث تضمّ إسرائيل إليها تكتلات المستوطنات. ولكن، سيبقى النفوذ والسيطرة الأمنية والعسكرية في يد إسرائيل. وستحظى المناطق الفلسطينية بما يشبه الشرطة البلدية.
مَن يبدو الأكثر قلقاً حتى اليوم هو الملك عبد الله الثاني. فعلى الأرجح، سيكون الأردن، في الصفقة، ضمن كونفدرالية بينه وبين مناطق الحكم الذاتي. أي إنّ هناك تداخلاً ديموغرافياً فلسطينياً - أردنياً يستثير لدى الملك هواجس الخوف القديم من «ترانسفير» فلسطيني من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، ليكون الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، وفق مقولة بن غوريون الشهيرة. ولذلك، أعلن الملك أنّ الكونفدرالية «خط أحمر» بالنسبة إلى الأردن.
وما يزيد المخاطر على الأردن، هو أنّ تركيبته السكانية الحالية مؤلفة من: 65% من أصل فلسطيني مقابل 35% من أبناء الضفة الشرقية. وعندما يُفتح باب النزوح قانوناً في اتجاه الأردن، ويُمنَح النازحون كل الحقوق المدنية التي يتمتع بها المواطنون الأردنيون، فقد يفقد هذا البلد شخصيته الوطنية ويصبح فعلاً وطناً بديلاً للفلسطينيين.
بل إنّ بعض الأردنيين يخشون المواقف الصادرة في الأيام الأخيرة عن مسؤولين فلسطينيين، ومنهم السفير لدى موسكو، التي أكّدت الموافقة على طرح الكونفدرالية الفلسطينية - الأردنية.
وعبَّر رئيس السلطة محمود عباس مراراً عن موافقته على الكونفدرالية التي طرحها جاريد كوشنير، صهر الرئيس دونالد ترامب ومستشاره والموفد الخاص للرئيس جيسون غرينبلات، شرط أن تكون إسرائيل جزءاً من تلك الكونفدرالية. وينظر الأردنيون وعدد من المراقبين بتشكيك إلى الموقف الفلسطيني، لأنه يوحي بموافقة السلطة الفلسطينية على جعل الأردن وطناً بديلاً.
ولكن، على الأرجح، لن تصمد اعتراضات الملك طويلاً لضرورات سياسية، ولكن أيضاً اقتصادية. فالدول العربية الغنية ستقوم بتمويل «صفقة القرن».
وتحدث العديد من المصادر أخيراً عن استثمارات بنحو 25 مليار دولار سيجري توظيفها في مناطق الحكم الذاتي. وهذه الاستثمارات ستسمح لغزة بفورة اقتصادية من خلال بوابتين: على المتوسط وعلى مصر التي سيكون لها موقعها ودورها في الصفقة، من خلال ترسيم حدود جديد في رفح، وستتقاضى الثمن. وثمة تسريبات عن مبالغ مخصصة للأردن ومصر، وربما لبنان، في إطار الصفقة، قدَّرها البعض بـ40 مليار دولار.
ولا يستطيع الأردن أن يواجه الصفقة أساساً لأنه يتلقّى من الولايات المتحدة مساعدات سنوية تقارب الـ1.5 مليار دولار اقتصادياً وعسكرياً. كما أنّ الاستقرار الأردني سياسياً وأمنياً واقتصادياً يعتمد خصوصاً على واشنطن. ولذلك، سيحاول الأردن تحسين الشروط ثم يوافق.
والآن، ماذا عن دور لبنان في الصفقة؟
ليست هناك مفاوضات ساخنة مع لبنان حول التوطين، على غرار المفاوضات مع الأردن. فلبنان لن يكون وطناً بديلاً بالمعنى الأردني، لكن حصته من النازحين الفلسطينيين ليست قليلة. ومع الوقت، ستتاح للنازحين فرصة التوطين فعلاً والحصول على حقوق المواطنة اللبنانية.
وتضاربت التقديرات حول عدد النازحين الفلسطينيين اليوم في لبنان. ولكن المرجّح وجود ما بين 450 ألفاً و600 ألف. إلاّ أنّ تقرير الإحصاء المركزي اللبناني - الفلسطيني فاجأ الجميع، قبل عامين، برقم 174 ألفاً. وأياً يكن الرقم الحقيقي، فإن لبنان سيكون مُلزماً بـ»حصّته».
بالتأكيد، كان يمكن للبنان أن يكون أقوى في رفض التوطين لو كان أكثر مناعة وتماسكاً اقتصادياً ومالياً وسياسياً. لكنه أصبح ضعيفاً تحت وطأة دَينٍ يناهز الـ 85 مليار دولار ونموّ دون الـ1% وهواجس مالية ونقدية، وفشل في إدارة ملف الإصلاح وفي تلبية متطلبات الجهات المانحة بإنهاء الفساد.
ولذلك، بدأ يصبح واقعياً، ويبدو أنّ اللحظة قد حانت للمواجهة مع الحقيقة التي لطالما عبَّر عنها كثيرون: التوطين مقابل تسديد ديون لبنان ومنعه من الانهيار. وهناك خوفٌ من أن يكون الفساد اللبناني هو «الطُّعم» الذي سيؤدي إلى وقوع لبنان في الفخّ.
بعبارة أخرى، إنّ تغطية القوى الدولية والإقليمية والجهات المانحة للبنان، على رغم الفساد، ربما تكون الرشوة التي سيتلقاها لكي يوافق على توطين النازحين الفلسطينيين… وطبعاً، على تطبيع إقامة النازحين السوريين حتى إشعار آخر.
وهكذا، يكون فساد الطبقة السياسية ضرورياً لتنفيذ مخططات التوطين وسواه. وحتى إسرائيل تشجّع هذا الفساد… لو تستطيع، لأنّه يُبقي لبنان ضعيفاً ويسهِّل لها تحقيق الغايات الكبرى. لا التوطين وحده، بل أيضاً ابتلاع النفط والغاز ومزارع شبعا أيضاً...