لا يمكن تفسير الإطالة المتمادية في مناقشة مشروع الموازنة العامة التي تطلّبت حتى الآن اكثر من 16 جلسة لمجلس الوزراء في خلال نحو شهر سوى انّ المعنيين، أو فريقاً كبيراً منهم على الاقل، يريد أولاً إعاقة التوصّل الى الموازنة الى مزيد من الوقت، ليظهر نفسه أنه صاحب الكلمة الفصل وانّ «الأمر لي» في الموازنة وفي كل قضية وطنية كبرى، متسلّحاً بشعار «القوة».
وثانياً، يريد إظهار أنّ الموازنة هي إنجازه كون المطلوب إقليمياً ودولياً أن تكون إصلاحية، استجابة لِما طلبته مجموعة المانحين في مؤتمر «سيدر» شرطاً لتقديم قروض ميسّرة للبنان بقيمة 11 مليار دولار على مدى 5 سنوات.
ولكنّ محاولات هذا الفريق باءت بالفشل، فما كان منه إلا ان ذهب الى تقديم مقترحات من خارج نصوص مشروع الموازنة، واستدار الى اقتراح فرض رسوم وضرائب في مجالات تكاد تكون هامشية على لائحة الواردات المقدّرة فأظهرته كمَن أفلس وانبرى الى التفتيش في ثياب والده العتيقة لعلّه يعثر فيها على ضالّته.
ويبدو انّ هذا الفريق لجأ الى طرح هذه الرسوم بعد «الهروب» من خفض رواتب الرسميين ومخصصاتهم الذي كان مقترحاً بنسبة 50 في المئة، وكذلك بعد سحب موضوع حسم 15 في المئة من رواتب موظفي القطاع العام في كل الاسلاك لمدة 3 سنوات، بحيث يكون هذا الحسم ديناً لهؤلاء الموظفين في ذمّة الدولة يُعاد اليهم بعدها بمفعول رجعي وفوائد.
ولتغطية هذا «الهروب» ذهب هذا الفريق الى اقتراح رسوم في مجالات لا تسمن ولا تغني من الجوع الى خفض العجز في الموازنة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فرض رسم بقيمة 500 ألف ليرة على لوحات السيارات ذات الارقام الثلاثة، و250 الف ليرة على الارقام الأربعة، وكذلك رسم على رخصة الزجاج العازل بقيمة 500 ألف ليرة، ورسم بقيمة 200 ألف ليرة على رخصة حمل السلاح الفردي، والأدهى فرض رسم 1000 ليرة على كل «نفس» اركيلة في المطاعم والمقاهي، فضلاً عن رسوم في مجالات اخرى. ذلك انّ حسبة صغيرة لِما يمكن ان يستجمع من هذه الرسوم، يظهر أنّ الرقم ربما يكون بعشرات الملايين، وربما ببضع مئات من الملايين، ما يعني انها ليست من الموارد التي يمكن الاعتداد بها لتحقيق خفض العجز المطلوب، الذي لا يمكن تحقيقه إلّا بقرارات كبرى تقتطع نفقات في مجالات كبرى تنفق فيها مبالغ ضخمة، الى مجالات يبدو الانفاق فيها غير مُجدٍ، كذلك يمكن إيجاد إيرادات من موارد مختلفة ليس أقلها الأملاك البحرية، ولا الضرائب على الودائع والفوائد المصرفية.
والواقع انّ درس الموازنة كان يفترض ان يكون أول مهمة للحكومة عند تأليفها قبل بضعة أشهر، مع العلم أنّ هذه الموازنة كان قد أعدّها وزير المال علي حسن خليل في آب من الصيف الماضي، ولكن استجابة لمتطلبات مؤتمر «سيدر» ارتؤي إعادة النظر فيها ووضعها في صيغة جديدة تأخذ في الاعتبار مطالب المانحين، وكذلك الأخذ بما ذهبت اليه الحكومة في بيانها الوزاري على هذا الصعيد.
ولكن ككل استحقاق، تعوّد اللبنانيون ان يتعرّض استحقاق الموازنة للاستثمار على يد بعض القوى السياسية، التي بادرت الى وضع الموازنة على الطاولة تشريحاً وتفريعاً ودرساً وتمحيصاً، بحثاً عمّا يمكن استغلاله منها خدمة لمصالح هذه القوى في الاستحقاقات المقبلة، وأبرزها الاستحقاقات الانتخابية البلدية والنيابية والحكومية والرئاسية التي تُصادف ربيع سنة 2022 وصيفها وخريفها، وهذه الاستحقاقات بدأت تَتشكّل لأجلها منذ الآن تحالفات بين بعض القوى السياسية التي وجدت أنّ هناك مصالح تجمع في ما بينها، وتفرض عليها نسج مثل هذه التحالفات. وفي هذا السياق يبدو انّ تيار «المستقبل» بزعامة الرئيس سعد الحريري و«التيار الوطني الحر» بزعامة الوزير جبران باسيل هما الاقرب الى التلاقي، حيث انهما ينسجان تحالفاً بينهما بعيداً من الأضواء يطمحان من خلاله الى ضمان بقائهما في سدّتي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال عون، كما هي حالهما الآن، وإن كان كثيرون يعتقدون انّ مصير مثل هذه الاستحقاقات، وحتى التحالفات في شأنها، يَتحدّد قبل أيام من مواعيدها. وقد كان الدليل على هذا التحالف المنتظر بين التيارين الازرق والبرتقالي التناغم والانسجام في مجلس الوزراء حول المقترحات التي قدّمها رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل وكادت ان تعيد خلط أوراق مشروع الموازنة، الى أن استقرّت على مادة تقترح فرض رسوم في مجالات صنّفها أصحاب هذه المقترحات في إطار «الكماليات».
إلّا انّ فريقاً من السياسيين لا يُبدي تفاؤلاً في تحقيق الخفض المرجو في عجز الموازنة من 11,7 في المئة الى 8 في المئة وما دون، لأنّ الحكومة قد لا تتمكن من تحقيق الايرادات الدفترية المحددة في الموازنة، اذ غالباً ما يأتي الواقع مخيّباً للظن لجهة الموارد المقدرة، حيث أنّ التقديرات تأتي أقل من التوقعات، وفي هذه الحال يتحول الخفض في العجز إعلامياً أكثر منه عملياً.