ليس في السياسة حظ . فهي فن وعلم وقوة. لكن إيران تناقض هذه النظرية، إذ تبدو اليوم محظوظة أكثر من اي وقت في تاريخها، سواء بحلفائها أو بأعدائها، الذين يساهمون في وضعها في مرتبة دولة كبرى قادرة على تحدي قوة عظمى، ومواجهتها، وربما على الانتصار عليها، على الرغم من تواضع قدراتها وإمكاناتها و"فنونها" السياسية.
ومثلما يظهر حلفاء إيران حماسة للتضحية بأنفسهم من أجلها، يتخبط أعداؤها المتفوقين قوة ومكراً، ويعتمدون سياسات لا يمكن أن توصف بغير الغباء والجهل، بأبسط قواعد الصراع، ويسيرون نحو نهايات حتمية، صار تكرارها مملاً الى حد السأم، وباتت نتائجها معروفة ولا تحتاج الى تنبؤات ولا تتطلب معجزات.
لكنه يسجل لإيران الآن أنها تقف على الجانب الصح من الصراع، إذ هي أضافت الى رصيد حلفائها الانتحاريين، الجاهزين للموت فداء لها في أي لحظة، حليفاً موضوعياً بالغ القوة، مرشحاً للمساهمة الفعالة في تشكيل النظام العالمي الجديد، هو المارد الصيني، الذي لا تفصله عن حدودها الشرقية سوى القليل من الدول والعوائق، والذي يتقاسم معها خندقاً واحداً في الحرب ، التجارية والسياسية، مع القوة الاميركية الآفلة.
ثمة إجماع على أن تلك الحرب التي تدور رحاها بين الصين وأميركا، تفسر الكثير من وقائع المواجهة الاميركية مع إيران، وتؤسس لدور صيني عالمي، يصب في نهاية المطاف في المصلحة الاستراتيجية الإيرانية، ويمهد لهزيمة سياسية أميركية جديدة، بعد الهزيمتين الاخيرتين في كل من كوريا الشمالية وفنزويلا، والتي كان لبيجين دور حاسم فيهما، برغم الادعاءات والاستعراضات الروسية الفارغة.
لا شيء يمنع أن تكون نهاية الازمة الايرانية الحالية مع أميركا مطابقة للسيناريو الكوري او الفنزويلي، بل لعل هناك ما يوحي بأن الاميركيين الذين يفقدون في الأصل إهتمامهم الاستراتيجي بالشرق الاوسط، سيسلمون لإيران بالهيمنة على منطقة الخليج العربي، بعدما سلموا لها سابقا بالغلبة في افغانستان، ثم بالنصر في العراق وفي سوريا وفي اليمن طبعاً. والوقائع الاخيرة حاسمة في هذا الاتجاه. فقد إستطاعت إيران أن تعطل بدائل مضيق هرمز، في ميناء الفجيرة وخط أرامكو الافقي السعودي، وأن تفرض تحكمها على ذلك الممر المائي الذي كان حيوياً للنفط الخليجي العربي، لكنه شهد الاسبوع الماضي عبور ناقلة نفط صينية أسمها "باسيفيك برافو"، محملة بمليوني برميل نفط إيراني متجهة الى موانىء الصين.
من دون جهد كبير، تكتفي إيران بإرسال ألغام بحرية نحو الامارات وطائرات درون نحو السعودية، وتعلن الاستنفار في صفوف ما يزيد على مئة ألف مقاتل إنتحاري (عراقي ولبناني ويمني وسوري..) إذا ما فكر الاميركيون وحلفاؤهم في شن الحرب أو في خوض المواجهة العسكرية المباشرة معها. وهي تؤكد بذلك أنها قادرة على إشعال المنطقة برمتها. الأمر الذي لا يعقل ان يكون قد غاب عن بال الرئيس دونالد ترامب، عندما قرر المضي قدماً في الحصار والعقوبات وفي التلويح بتغيير النظام الايراني.
القول ان إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو هو الذي يدير الآن السياسة الخارجية الاميركية، يحتمل الصواب، بدليل ما حققه من مكاسب سياسية مهمة في مساعيه لإشراك أميركا في تصفية القضية الفلسطينية. لكن الاستنتاج بأن واشنطن باتت منقادة كلياً لمشيئة نتنياهو الايرانية ما زال يحتاج الى الكثير من التدقيق، لاسيما وأن الاصوات بدأت ترتفع في كل من واشنطن وتل أبيب محذرة من مغبة التورط الاميركي في الرغبات الاسرائيلية الخطرة او على الاقل المكلفة على المصالح الاميركية.
الغارة الاسرائيلية الاخيرة على مواقع إيرانية محيط العاصمة السورية تعقّب على هذه الاصوات بالتحديد، وجاءت لتثبت ان إسرائيل تتحمل قسطاً من أعباء المواجهة المباشرة مع إيران. الغارة هي أيضاً بهذا المعنى ردٌ إسرائيلي على الهجومين الايرانيين على ميناء الفجيرة وخط أرامكو في الرياض.. وتلميح الى أن خط الاشتباك الذي أُقفل في مياه الخليج، بعدما تراجع الجانبان الاميركي والايراني وأبعدا قواتهما المقاتلة عن بعضها البعض، عاد مجدداً الى سوريا، التي لا تزال تحتمل الكثير من المناورات العسكرية المتبادلة وغير الخطرة.
ثمة ما يوحي بأن الحوار غير المباشر قد بدأ بين الاميركيين والايرانيين، بعدما بلغ الجانبان الحدود القصوى، وحددا عناصر قوتهما وأدوات إستخدامها، ولم يبق سوى الاتفاق على صيغة الاعلان المتبادل بأن أحدهما قد جلب الآخر الى طلب المفاوضات.. بضربة حظ لا مثيل لها.