حرب أم لا حرب مع إيران، ليست تلك هي المسألة ما دامت الحرب قائمة. يدل على أنّ هذه الحرب قائمة الاعتداءات الإيرانية على سفن تجارية قبالة ميناء الفجيرة وهجمات عبر طائرات من دون طيّار على منشآت نفطية سعودية. وراء هذه الهجمات التي نفّذها الحوثيون، تقف إيران التي تريد القول إنّ لديها أوراقها في المنطقة وأن لا حاجة لديها إلى إغلاق مضيق هرمز، الذي لا تستطيع عمليا إغلاقه لأسباب كثيرة. من بين هذه الأسباب أنّها ليست قوة عظمى تستطيع أن تفعل ما تشاء في مناطق معيّنة من العالم، كما كان يفعل الاتحاد السوفياتي، حتّى آخر ثمانينات القرن الماضي. مضيق هرمز ممرّ مائي ليس مسموحا لأحد بإغلاقه أمام الملاحة الدولية. لا إيران ولا غير إيران. في المقابل، تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من نفوذ دولي كي تعمل بطريقة جدّية على خفض صادرات النفط الإيرانية، إلى حدّ كبير، من دون اللجوء إلى إغلاق هذا الميناء أو ذاك.
لن تفيد العمليات الإرهابية التي تلجأ إليها، أو يمكن أن تلجأ إليها، إيران مستقبلا في شيء باستثناء تسميم الأجواء، أكانت هذه العمليات مباشرة أو عبر أدوات إيرانية في المنطقة. لن تقدّم المفاوضات التي تجريها إيران مع الإدارة الأميركية، عبر سلطنة عُمان أو قطر أو العراق أو ربّما سويسرا أو تؤخر. ما يفيد في شيء هو الرغبة الإيرانية في الاعتراف بالواقع والتعاطي معه من منطلق أنّ هناك وضعا لا يمكن أن يستمرّ. هذا الوضع هو السلوك الإيراني الحالي الذي يشكّل امتدادا لوهم عمره 40 عاما.
من الواضح، أنّ هناك من يعتقد في الجانب العربي بوجود تطابق كامل في وجهات النظر مع إدارة دونالد ترامب في ما يخص إيران. هذا التطابق موجود بالفعل ويتعلّق بالخطوط العريضة التي باتت قاسما مشتركا بين الجانبين. كان الخلاف العربي – الأميركي في الماضي على الموقف من المشروع التوسّعي الإيراني الذي وضعت إدارة باراك أوباما نفسها في خدمته.
هناك الآن رؤية مشتركة عربية – أميركية للخطر الذي يمثله هذا المشروع التوسّعي القائم على التمدد في كلّ الاتجاهات عن طريق خلق ميليشيات مذهبية تابعة لإيران في هذا البلد العربي أو ذاك. الأمثلة على ذلك كثيرة، أكان في لبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن، من دون تجاهل أن إيران سعت إلى اختراقات في البحرين والكويت وحتّى في المملكة العربية السعودية.
لم تخف السعودية ولا دولة الإمارات العربية المتحدة، عندما أعلنتا عن الاستعداد لتعويض كميات النفط الإيراني، الرغبة في المشاركة في التصدي للمشروع الإيراني الذي يشكل خطرا على كلّ دولة في الخليج العربي وفي المشرق. وهذا يعني في طبيعة الحال الاستعداد لرد فعل إيراني يستهدف تخويف البلدين، علما أنّ هناك وعيا لديهما، في شكل عام، لطبيعة النظام الإيراني والوسائل التي يستخدمها من أجل تخويف الآخر وإرهابه. تريد إيران بكلّ بساطة لعب دور القوّة الإقليمية المهيمنة. لذلك نراها تبحث عن دور شرطيّ الخليج من جهة، وتأكيد أنّها دولة متوسطية موجودة بقوّة على الساحلين السوري واللبناني من جهة أخرى.
ليس صدفة، بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014، صدور تصريحات عن غير مسؤول إيراني عن أربع عواصم عربية باتت تُدار من طهران. هذه العواصم هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. كان المقصود بالإشارة إلى بيروت أن إيران تمتلك إطلالة على البحر المتوسط، وأن “الجمهورية الإسلامية” ليست مجرّد دولة عادية، بل تحوّلت إلى إمبراطورية.
تلعب إيران على كلّ التناقضات. التناقضات العربية – العربية، والتناقضات بين الولايات المتحدة والصين، وتلك التي بين واشنطن وموسكو، وحتّى على الاختلاف في وجهات النظر من ملفّها النووي بين واشنطن والعواصم الأوروبية المهمّة. لا يساهم هذا اللعب على التناقضات سوى في إطالة الحرب القائمة، وهي حرب في أساسها الاقتصاد، إلى إشعار آخر. لا شيء يوقف هذه الحرب إلّا حصول وعي إيراني بنهاية مرحلة معيّنة. تقوم هذه المرحلة على وجود إدارة أميركية تعرف تماما ما هي “الجمهورية الإسلامية” وما الخطر الذي تشكّله أدواتها من ميليشيات مذهبية مختلفة. من المفيد ملاحظة أن التحذيرات الأميركية لطهران لم تقتصر على “الحرس الثوري”. ربطت واشنطن بين إيران وميليشياتها بصفة كون الكلّ كيانا واحدا. يعتبر مثل هذا التطوّر أمرا في غاية الأهمّية في الحرب القائمة. لم تعد أميركا تفرّق بين الميليشيا الأمّ التي تحكم في طهران والتي تسمّى “الحرس الثوري” وتوابعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن. يميّز هذا التطوّر المرحلة الراهنة التي تسعى إيران إلى تجاوزها من منطلق أنّ شيئا لم يتغيّر، لا عربيا ولا أميركيا.
لا شكّ أن هناك حسابات تبقى خاصة بالإدارة الأميركية. لكنّ مما لا شكّ فيه أيضا أن إيران لا تستطيع الخروج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه من دون مقدار كبير من الشجاعة. لم يعد الدهاء وحده يكفي بعدما أدركت واشنطن أخيرا أن المشكلة مع إيران ليست في ملفّها النووي. المشكلة في سلوكها خارج حدودها. هذا كلّ ما في الأمر. الأسوأ من ذلك كلّه أن ليس لدى إيران ما تصدّره إلى خارج حدودها غير البؤس والتخلّف على كلّ صعيد.
تستطيع إيران أن تهدم مؤسسات الدولة في هذا البلد العربي أو ذاك. ولكن ما نتيجة ذلك في المدى الطويل. يظلّ لبنان الشهيد مثلا حيّا على السلوك الإيراني المطلوب تغييره. ماذا فعلت إيران بلبنان؟ ما نتيجة استثمارها الطويل المدى في “حزب الله” الذي تسعى إلى تعميم تجربته في المنطقة كلّها؟
كلّ ما يمكن قوله إنّ النتيجة خراب بخراب لحق بلبنان عموما وإحدى أكبر الطوائف فيه. استطاعت إيران تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، وتسعى الآن إلى تغيير طبيعة المجتمع اللبناني كلّه بعدما تمكنت من فرض رئيس للجمهورية من اختيارها على البلد.
تظلّ العبرة في نهاية المطاف في النتائج التي تتحقّق. كلّ ما تحقّق هو سلسلة من الخدمات استفادت منها إسرائيل للأسف الشديد. يكفي للتأكد من ذلك أن إيران لعبت الدور الأساسي في تفتيت سوريا عبر دعمها بشّار الأسد ونظامه في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. إذا كانت من حاجة إلى التأكد أكثر من ذلك، يكفي النظر إلى مصير القدس التي تاجرت بها طهران منذ قيام “الجمهورية الإسلامية”. أين القدس الآن بعد سنة كاملة من نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إليها؟
هناك حرب مستمرّة. لا يوقف تلك الحرب سوى تغيير كامل في السلوك الإيراني لا أكثر ولا أقلّ. مطلوب استبدال الشجاعة بالدهاء. كل ما تبقى تفاصيل. هل في طهران من يجرؤ على اتخاذ مثل هذا القرار الشجاع؟