تعمّد ترامب تسريب كلامه الى الاعلام الاميركي، مشيراً الى أنه قاله لوزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان. وهو أراد من خلال ذلك توجيه رسالة إيجابية الى طهران التي كانت قد باشرت في إبراز مخالبها.
وخلال هذا اللقاء قدّم رئيس الاركان الجنرال جوزف دانفورد عرضاً مفصّلاً عن الخطط العسكرية المتاحة مع التَبعات التي ستنتج من كل منها على المصالح الاميركية. وكرّر الجيش الاميركي رؤيته للحرب مع إيران، والتي كان وزير الدفاع الاميركي السابق جيمس ماتيس قد دأبَ على تكرارها امام رئيسه، من أنّ لإيران خلايا ومجموعات مرتبطة بها منتشرة على كل رقعة الشرق الاوسط وقادرة على استهداف المواقع العسكرية الاميركية، أضف الى أنّ فتح الأبواب امام النزاع سيؤدي الى مشكلة في تأمين الطاقة والى ارتفاع مجنون لأسعار النفط، إضافة الى تدفّق سيول المهاجرين الى أوروبا. ما يعني انّ كلفة الحرب ستكون مرتفعة جداً.
كذلك، فإنّ إيران لا تمثّل تهديداً داهماً للولايات المتحدة الاميركية، بينما من الحكمة الاستمرار في سياسة الضغط وفق مستوى محدد كما هو حاصل الآن، ما سيؤدي الى نتيجة أفعل على المستوى الاقتصادي والمعيشي الداخلي الايراني، في مقابل التفرّغ أكثر للتركيز على مخاطر أكبر تشكّل تحديات اساسية لواشنطن حيث تأتي الصين في الطليعة وتليها كوريا الشمالية التي تطال صواريخها الاراضي الاميركية، وايضاً روسيا القوة الدولية التي تحلّ مكان النفوذ الاميركي خصوصاً في الشرق الأوسط.
قبل ذلك، كان ترامب قد سمع تقييم المخابرات المركزية الاميركية CIA التي تعارض الاندفاع الحاصل في اتجاه الحرب، وأنّ الادارة الاميركية أخطأت في إدراج الحرس الثوري الإيراني على لائحة الارهاب الاميركية، ما أدى الى توحيد الصفوف الداخلية الإيرانية خلفه، وجعل الرئيس الإيراني حسن روحاني ملزماً بمسايرة رأي الجناح المتشدّد والذي يدفع في اتجاه المواجهة بدلاً من التسوية.
وليس سراً تقييم المخابرات المركزية الاميركية للشرق الاوسط بأنه رمال متحركة من الأفضل عدم الغرق فيها، وهو ما خَبرته واشنطن من دروس العراق ولبنان الدامية.
وفي هذا الوقت كان الرصد الاميركي يتلقى مزيداً من الرسائل الإيرانية: صور تظهر صواريخ جاهزة للاستعمال على متن قوارب صغيرة وهي موجهة ضد السفن الأميركية. والأهم اقتراب طائرة من دون طيار مجهولة الهوية من السفارة الاميركية في بغداد، لكنها سرعان ما ابتعدت من دون أن تشكل خطراً مباشراً.
الـ CIA بقيت على اقتناع بأنّ الرسائل الإيرانية طابعها دفاعي لا هجومي. وعقب انتهاء اجتماع ترامب بشاناهان ودانفورد، إتصل وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو بالسلطان قابوس وبوزير خارجية سلطنة عُمان يوسف بن علوي. هَدف الاتصال ليس في حاجة للتفسير: إعادة إحياء الوساطة العُمانية مع طهران، ولِم لا، تكرار المفاوضات غير المباشرة مع إيران.
ويوم الاربعاء المقبل وفي خطوة غير مألوفة، سيتكلّم بومبيو في احتفال عيد الاستقلال الاسرائيلي والذي سيُقام في السفارة الاسرائيلية في واشنطن. وقيل إنه سيدلي بمواقف أساسية من الازمة مع إيران. ولم تكن واشنطن وحدها مَن تراجَع خطوة الى الوراء، ففي إسرائيل، وباستثناء تصريح نتنياهو، فإنّ اي موقف هجومي من إيران لم يظهر بخلاف ما كان سائداً طوال الأسابيع والأشهر الماضية. ونقلت الصحافة الاسرائيلية أنّ نتنياهو أصدر تعليماته لوزرائه والمسؤولين الكبار بعدم الادلاء بأي تصريحات يُستشَف منها أنها تتضمن تحفيزاً او تأييداً لنشوب المواجهة.
وبخلاف بعض التفسيرات، فإنّ الهجوم الصاروخي الاسرائيلي على مواقع إيرانية في سوريا حصل بالتنسيق مع واشنطن، وهَدف لجَس نبض الإيرانيين بعد موجة التصعيد التي سادت. وبكلام أوضح، أرادت إسرائيل ومعها واشنطن اختبار ما اذا كان طرأ تعديل على قواعد الاشتباك المعمول بها في سوريا تحت رعاية روسيا. وبمعنى آخر، جاء الاعتداء الصاروخي ليؤكد تراجع مستوى التوتر. وهو ما أشارت إليه في وضوح صحيفة «يديعوت احرونوت» التي ذكرت أنّ الهجوم الاسرائيلي على أهداف إيرانية في سوريا يشير الى تراجع حدة التوتر لا الى تصعيد مقبل.
وفي العودة الى واشنطن، فإنّ التحركات على مستوى الكونغرس جاءت لتؤكد المؤكّد: لا نية للتوجّه الى الحرب.
وفي هذا الاطار، جاءت خطوة رئيس الاقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ تشارلز شومر القائم بأعمال وزير الدفاع ورئيس هيئة الاركان للشهادة أمام الكونغرس تحت عنوان: «الشعب الاميركي يستحق معرفة ما يجري».
ونُقل عن شومر قوله انّ دروس التاريخ تعلّمنا انه «عندما يحدث شيء ما في السر وخلف الأبواب المغلقة، يمكن ان تكثر الاخطاء وندخل في مسار تندم عليه الأمة في نهاية الأمر».
ربما لأجل ذلك غرّد ترامب لاحقاً أنه واثق من أنّ إيران ستتفاوض قريباً.
وفي كواليس الديبلوماسية الأميركية أنّ إدارة ترامب قد تكون بالغت بعض الشيء في ضغوطها على إيران مع الدفعة الأخيرة من العقوبات التي فرضتها مطلع الشهر الحالي.
ويعترف هؤلاء بأنّ إدارة ترامب شعرت بالوحدة على المستوى الدولي، خصوصاً أنّ أوروبا رفضت مجاراة واشنطن خلال التوتر الذي ساد.
لا بل أكثر فإنّ ترامب، القَلِق من العقبات التي تواجه «صفقة القرن» والساعي الى اكتساب ورقة التفاوض مع إيران، يحاذر النكسات التي سترتد عليه سلباً في معركة إعادة انتخابه وسط همس عن تشجيع مسؤولين في الحزب الديموقراطي، بينهم وزير الخارجية السابق جون كيري، الإيرانيين على الصبر حتى إجراء الانتخابات الأميركية الرئاسية عام 2020، خصوصاً انّ بعض مراكز صنع القرار الأميركي ليست في وارد الحرب.