دورُ الوسيط الذي تقوم به سويسرا بين أميركا وإيران كان يُمكِنُ أن يَقومَ لبنانُ به لو أَحسنَ المحافظةَ على رسالتِه وهويّتِه. وسيطُ الأمم. هذا هو دورُ لبنانَ بين الشرقِ والغرب، والإسلامِ والمسيحيّةِ، والعربِ والعرب، والفُرسِ والعرب. وفي هذا السياقِ كان يُمكنُ للبنانَ أن يُوفِّقَ بين السعوديّةِ وقطر، وبين مِصر وتركيا، وبين السلطةِ الفِلسطينيّةِ وحماس.
طبيعةُ الصيغةِ اللبنانيّةِ (الشراكةُ بين الأديان) وطبيعةُ الميثاقيّةِ اللبنانيّةِ (لا شرقَ ولا غرب) كانتا تُعطيان لبنانَ قدرةَ التعاطي مع الجميعِ والتوفيقِ بين المتنازعين، ونَقلِ الصراعاتِ من المنحى العسكريِّ إلى المنطقِ السياسيّ. لكنَّ اللبنانيّين أَفسَدوا الشراكةَ وعَطبوا الميثاقيّةَ، ففَقَد لبنانُ دورَه المميَّز وعَرَّض طبيعةَ وجودِه للخَطر. بعد أن كان رؤساءُ جُمهوريّةِ لبنان ورؤساءُ حكوماتِه وشخصيّاتُه يَلعَبون في العالمِ العربيِّ دورَ الوسيطِ بين أربَعيناتِ وسَبعيناتِ القرنِ الماضي، صار الآخَرون يَتدخَّلون للمصالحةِ بين طوائفِه وأحزابِه ومذاهبِه. وبعد أن كنّا دولةً ميسورةَ الاحترامِ، صِرنا دولةً تحتَ سقفِ الاحترام.
انتقل لبنانُ من دورِ الطبيب إلى دورِ المريض. ومن دورِ الوسيطِ إلى دورِ الفريق في كلِّ صراعاتِ المِنطقةِ والعالم. لم تَنعكِس علينا صراعاتُ المنطقةِ لأنّنا مَعنيّون بها، بل لأنّنا تَدخّلنا فيها من دون مَشورةٍ أو تكليف أو تفكيرٍ بمصلحةِ دولةِ لبنان، ولأنَّ حدودَنا سائبةٌ، ووِحدتَنا الوطنيّةَ مجازيّةٌ، وولاءَنا للخارج يعلو على ولائِنا للوطن. ألم يَكن مؤسِفًا أنْ يُناصِرَ بعضُنا الثوراتِ العربيّةَ (وأيُّ ثوراتٍ!!) وبعضُنا الآخَر الأنظمةَ (وأيُّ أنظمةٍ!!)؟ وألم يَكن مُضْحِكًا، أخيرًا، أنْ تَتّخذَ أطرافٌ لبنانيّةٌ موقِفًا مؤيِّدًا لـ«مادورو» ضد «غويدو» في فنزويلا؟
خَلا القضيّةِ الفِلسطينيّةِ، ليس للبنانَ أن يكونَ شريكًا في أيِّ قضيّةٍ أُخرى في المِنطقةِ إلّا من خلالِ المساعدةِ على حَلِّها. وليس له أن يكونَ معنيًّا بأيِّ حدثٍ خارجَ حدودِه ما لم يَتحوّل هذا عُدوانًا ضِدَّ سيادتِه واستقلالِه. حتّى في الموضوعِ الفلسطيني، كفي لبنانُ أن يكونَ مَلكيًّا أكثرَ من الملِك. وإذا كان الفِلسطينيّون تَصالحوا مع إسرائيل وعَقدوا تسويةً معها، وإذا كانت الدولُ العربيّةُ كافةً ـــ مع التشديدِ على كلمةِ «كافةً» ـــ تَفاهَمت علنًا أو سِرًّا مع إسرائيل، فلا أرى سببًا يَدفع لبنانُ، بعدُ، إلى المقاومةِ من أجلِ تحريرِ فِلسطين. الأَجدرُ بلبنانَ أن أن يُركِّزَ على مشروعٍ يتناول اللاجئينَ الفلسطينيّين القاطِنينَ في أراضيه ويُعيد انتشارَهم على دولٍ عربيّةٍ وأجنبيّةٍ قادرةٍ على استيعابِهم ويؤَمِّنُ لهم حياةً لائقةً بهم لأنّهم يَستحقّون الحياةَ والسكنَ والتعليمَ والعملَ والفرَح.
استعادةُ لبنانَ دورهَ المميَّزَ يَستلزِم وجودَ دولةٍ قويّةٍ وذاتِ صُدقيّةٍ، ووجودَ نُخبٍ فيها تَتمتّعُ بعَلاقاتٍ ـــ لا بارتباطاتٍ ــــ عربيّةٍ ودوليّة مؤهّلةٍ لِأن تَتولّى دورَ الوَساطةِ، ويَستوجبُ أساسًا أنْ يَعتمِدَ لبنانُ نظامَ الحِيادِ أو أَقلَّه سياسةً محايِدةً، لا أن يكونَ ـــ كما حالُه اليوم ـــ فريقًا في عالمٍ لا يُشبِهُه ومنحازًا إلى أنظمةٍ ومحاورَ تَتعارضُ مع مصالِحه وديمقراطيّتِه. لبنانُ الحاليُّ ليس لبنانَ المسيحيّين ولا لبنانَ المسلمين ولا لبنانَ الشَراكةِ المسيحيّةِ/الإسلاميّة. لبنانُ الحاليُّ ليس لبنانَ «لا شرقَ ولا غربَ» ولا لبنانَ الشرقِ والغربِ. هو فريقٌ في الشرقِ ضِدَّ شرقٍ آخَرَ وفريقٌ في الغربِ ضِدَّ غربٍ آخَر. لبنانُ الحاليُّ ليس لبنانَ الكبير، ولا لبنانَ المتصرفيّة، ولا لبنانَ إمارةِ الجبل، ولا لبنانَ القائمقاميَّتين. هو لبنانُ القائمُ بأعمالِ الدولِ الغريبة، عربيّةً كانت أو دوليّة. هو الــ«لالبنان».
وما الضياعُ الذي نعيشُه اليومَ سوى نتيجةِ اِنحَرافِ لبنان عن ذاتيّتِه ودورِه وعن مُبرِّرِ وجودِه. كلُّ الأدوارِ المستعارةِ التي فُرضت على لبنانَ أَضعفَتْه وأجازَت الانقِضاضَ على خصوصيّتِه. تَكفي المقارنةُ بين ما حَقَّقه لبنانُ زمنَ احترامِ دورِهِ وما خَسِرَه بعدَ الخروجِ عنه. البعضُ أراد تحجيمَ الدورِ المسيحيِّ في دولةِ لبنان، فتحَجَّمَ دورُ لبنانَ كلِّه. ويَتّضِحُ يومًا بعد يومٍ أنَّ تغييرَ دورِ لبنانَ هو جُزءٌ من مشروعِ تغييرِ لبنان. بفَضلِ صمودِ لبنانَ السابقِ فَشِلت كلُّ محاولاتِ ضَمِّهِ إلى وِحدةٍ عربيّةٍ ثنائيّةٍ أو ثلاثيّةٍ أو أوسعَ، أمّا وقد أَفقَدوه عَصبَه الوطنيَّ ومناعتَه التاريخيّةَ، برضى قادةٍ مسيحيّين أيضًا، فصار لبنانُ جُزءًا من حالاتٍ إسلاميّةٍ مُنتشرةٍ من إيران إلى الخليجِ فالمشرِق.
إن استرجاعَ لبنان يَبدأ باتفاقٍ مسيحيٍّ إسلاميٍّ على إعلانِ حيادِ لبنان. هذا المشروعُ يَستحِقُّ، على صعوبتِه، أن يكونَ في أولويّةِ المطالبِ اللبنانيّةِ لدى المجتمعِ الدولي. ومؤشِّرُ إرادةِ الأطرافِ اللبنانيّةِ على تحييدِ لبنان هو نوعيّةُ الاستراتيجيّةِ الدفاعيّةِ الجديدةِ التي يُفترَضُ أن تَنطلِقَ من «إعلانِ بعبدا»، وقد وافقت عليه الأطرافُ اللبنانيّةُ كافةً بكامل وعيها، وصَدّقَت عليه المرجعيّاتُ العربيّةُ والدوليّة.
صحيحٌ أنَّ الاختلافَ في الرأيِ حقٌّ وطنيٌّ وديمقراطيّ، لكن، حين يَحمِلُ الرأيُ الآخَر في طيّاتِه مشاريعَ مختلِفةً عن الرأيِّ العام، يُصبح خِلافًا على الوطن لا على الرأيِ، ويُحلِّلُ للآخَر أنْ يَتصرَّف. إن إنقاذَ وِحدةِ لبنان باتت مرتبطِةً بإرساءِ حِيادِ لبنان. وكلُّ يومِ تأخيرٍ في تحييدِ لبنان يُعرِّضُ المشروعَ اللبنانيَّ التاريخيَّ للتدهور، فيما هو حاجةٌ لبنيه ومحيطِه والعالم.
أنَّ لبنانَ كيانٌ ديبلوماسيٌّ بامتيازٍ في هذا الشرقِ الـمُفسَّخ. فعدا حقِّ الدفاعِ عن نفسِه وسيادتِه بقوّةٍ، هو مؤهَّلٌ أساسًا للاضِطلاعِ بالمهمّاتِ السلميّة. هو الـمَصَحُّ السياسيُّ لأمراضِ الدولِ وأنظمتِها وشعوبِها. وأيُّهما يُفيد لبنانَ أكثر: تحويلُه جَبهةً عسكريّةً مفتوحةً على كلِّ الصراعاتِ أم تعزيزُ رسالتِه الحياديّةِ ليُبعِدَ عنه الصراعاتِ والأخطارَ المداهمة؟