عند كل استحقاق أو حدث يريد وزير الخارجية، جبران باسيل، أن يلعب دور المؤثر والمقرر. فعندما أعلن باسيل، على مرتين متتاليتين الأسبوع الفائت، بأن "النقاش الحامي" في مجلس الوزراء لم يبدأ بعد، كان يعرف إلى أين يرمي وعلى ماذا يصوّب. ما كان يريده وقتها، هو أن يستنزف نقاشات كل القوى، ويطيح بها، مع إضاعة كل الوقت الذي أُغدق في الجلسات على النقاش في الموازنة. ومن ثم، يتقدّم هو بورقة "الحل والخلاص" المقترحة من قبله. فقد كان من المفترض أن تكون جلسة الجمعة هي الجلسة النهائية، التي يقدّم فيها وزير المال علي حسن خليل مطالعته الأخيرة بعد إدخال التعديلات. على هذا الأساس انتهت جلسة الأربعاء، وتحدد جدول عمل جلسة الجمعة.
إهدار الوقت والاستعراض
لكنّ كل هذه الحسابات تبددت. لم يقدّم وزير المال خلاصته ومطالعته النهائية، وعمل فقط على توزيعها على الوزراء للاطلاع عليها. إذ أن باسيل أصرّ على طرح "ورقته"، والتي في جزء كبير وواسع منها، مقتبسة من اقتراحات كان تقدّم بها الأفرقاء المختلفون على طاولة الحكومة. فعمل على تجميعها وتقديمها ضمن ورقة كاملة باسمه واسم تكتله. خطوة باسيل هذه، لاقت اعتراضات عديدة من بعض الوزراء، الذين اعتبروا أن ما يجري هو إهدار للوقت، واستعراض، ومحاولة تصوير لانتصارات أو إنجازات وهمية. بينما بعضهم حاول سؤال رئيس الحكومة سعد الحريري إذا ما كان موافقاً على ما يجري، لكنهم لم يلقوا جواباً. خصوصاً أن الاقتراحات التي يتقدّم بها باسيل كان تقدّم بها وزراء آخرون، وجرى التوافق عليها، بينما بنود أخرى تم طرحها فعارضها بعض الأفرقاء، لكن باسيل أعاد طرحها. فلم تلق أي اعتراض وإن لم تقرّ. كالاقتراح الذي تقدّم به باسيل لإلغاء المجلس الأعلى اللبناني السوري. فهو اقتراح مقدّم من قبل وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي. ولدى اقتراحه رفضه حزب الله، بينما عندما قدمه باسيل بقي وزراء الحزب على صمتهم، لأنهم مطمئنون أن هذا الاقتراح لن يمرّ، طالما لا يصدر بمرسوم، بل يحتاج إلى قانون في مجلس النواب، وإلى تعديل قانون الاتفاقيات المشتركة مع سوريا. ما يعني أن الاقتراح اقتبسه باسيل من الاشتراكي، وهو يعلم أنه لن يمرّ.. وطرحه لمجرد الاستعراض.
العسكر وعون
ومع استمرار النقاش بورقة باسيل، التي تتضمن إلغاء بعض المؤسسات العاطلة عن العمل أو غير المنتجة، كالمؤسسة الوطنية للاستخدام، ومشروع أليسار، وتخفيض رواتب النواب السابقين وليس النواب الحاليين، بالإضافة إلى زيادة الضريبة على فوائد الودائع المصرفية.. يبدو باسيل وكأنه هو من يتحكم بمسار الجلسات.
الأمر نفسه ينطبق على الموضوع الذي يثير الإشكالية الأكبر، وهو التدبير رقم 3، المتعلق بتعويضات نهاية الخدمة للعسكريين والضباط. فما أراد التيار الوطني الحرّ تكريسه في هذا الأمر، هو مرجعية بعبدا ورئيس الجمهورية، عبر الإصرار بأنه لا يمكن اتخاذ أي قرار بهذا الشأن من دون الرجوع إلى المجلس الأعلى للدفاع. وهذا يمثّل خروجاً على سلطة وصلاحيات رئاسة الحكومة. والسياق السياسي كان واضحاً هنا في كيفية التعاطي مع هذا البند. إذ عقد اجتماع في وزارة الدفاع بين وزير الدفاع الياس بو صعب، ووزيرة الداخلية ريا الحسن، جرى خلاله التوافق على توحيد إجراءات التدابير بين مختلف الأسلاك العسكرية، ليتم عرضها على المجلس الأعلى للدفاع، الذي سيعقد برئاسة رئيس الجمهورية، ويتخذ القرار المناسب. ما يعني أيضاً تأكيد إضافي، من قبل التيار الوطني الحر، أن القرارات الرئيسية لا تتخذ إلا برعاية رئيس الجمهورية وإشرافه، والذي يلعب دور "بيّ الكل" و"بيّ العسكر". وحسب ما تؤكد المعلومات، سيتم التمييز بين العسكريين على الحدود، الذين سيستمرون بالحصول على هذا التدبير، مقابل تطبيق التدبير رقم 2 و1 على العسكريين الذين يخدمون في الثكنات والإدارت. كما سيتم تخفيض بعض المخصصات من المحروقات وغيرها.
اللعبة الإعلامية
في الخلاصة، يريد باسيل أن يقول للجميع بأن القرارات الأساسية تبقى لديه، بمعزل عن ما "أهدرته" جلسات الموازنة من وقت ونقاش وأفكار اقترحها الآخرون. شيء ما في هذه "اللعبة" يتصل أيضاً بهاجسه في السبق الإعلامي، أو بصناعة الحدث إعلامياً، ونسبه إلى باسيل والتيار الوطني الحرّ. هذا الأسلوب أصبح ثابتاً لدى باسيل في كل الجلسات التنفيذية والتشريعية، ليس فيما يتعلق بالموازنة فقط، بل اعتمده أيام جلسات نقاش قانون الانتخاب. وهذا ما دفع بعض الوزراء إلى التعليق بالقول أن باسيل يريد دوماً أن ينسب الفضل لنفسه أو يوهم الجمهور أنه صاحب الأفكار والإنجاز والقرار، ولو اقتضى الأمر أن "يقتبس" الأفكار من غيره.. أما عندما يكون هناك مشكلة فعلية، كمشكلة الكهرباء التي يتسلّمها التيار منذ أكثر من عشر سنوات، فيتنصل منها ويبتعد عنها ويحمّل مسؤولية الفشل فيها القوى الأخرى.
هكذا باتت السياسة ورجالاتها في "العهد القوي" وفي زمن "الإصلاح والتغيير".