عندما وقف البابا الراحل يوحنا بولس الثاني على منصة بكركي المطلة على بيروت في 11 مايو (أيار) من عام 1997، وخاطب عشرات آلاف الشباب الذين وقفوا لتحيته قائلاً كلمته التي صارت شعاراً «لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة»، كان البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير واقفاً إلى جانبه، وكان اللبنانيون الذين لطالما واكبوا صفير في مواقفه الوطنية التي تعكسها تصريحاته وعظاته، يعرفون أن صفير دأب منذ بداياته الكهنوتية على العمل من منطلق اقتناع فعلي بأن لبنان رسالة، وأن قيمة هذه الرسالة أنها جعلته مساحة إنسانية مميزة للتعايش بين الأديان ولرفع لواء الحرية والسيادة والاستقلال، وهذه من الفضائل المثلى التي لم يُتح له فعلاً أن يعيشها.
فجر يوم الأحد الماضي مات صفير عن عمر يناهز 99 عاماً بعدما كان البطريرك الماروني السادس والسبعين الذي تولى مسؤولياته في 19 أبريل (نيسان) من عام 1986، يوم كان لبنان تحت الاحتلال السوري، وهو ما سيجعل منه البطريرك المقاوم بشراسة من أجل حرية لبنان واستقلاله وعيشه المشترك المميز، الذي لطالما حاولت التدخلات الخارجية طمسه وتخريبه، ما ينعكس سلباً على جناحي الوطن الصغير المسيحي والمسلم!
يومها قال الذين عرفوه راهباً هادئ الطباع: صار لكم بطريرك مثقف ومتواضع محب للكلمة والعلم، مفكر حداثي، سرعان ما سيغني ذاكرة بكركي، لكنّ ظروف لبنان القاسية والصعبة والنيران المشتعلة في جنباته، ستجعل منه بطريركاً يعاني، مقاتلاً للحق ومقاوماً للطغيان أتى من داخل أو من خارج، وكان قد دأب دائماً على القول: «إن الإيمان ليس مجرد صلاة، إنه حمل كلمة الله في الأوطان والإنسان».
كانت بنادق الوصاية السورية تُحكم قبضتها على لبنان، وهذا ما دفعه ليجعل من تصريحاته وعظاته جذوة معارضة ومقاومة وطنية، تطالب بلا توقف باستقلال لبنان وحريته وسيادته، مبشّراً بأن لبنان سيبقى قلعة التعايش الحضاري بين الأديان والتي لن يقوى عليها جحيم الأشرار، وبعدما جمع الأفرقاء المسيحيين المتقاتلين في بكركي في أبريل من عام 1989، تعرض مقره في بكركي للاقتحام على أيدي شبان من أنصار الجنرال ميشال عون يومها، وخرج يومها حزيناً وجريحاً لأنه اعتبر أن الاعتداء على بكركي وبطريرك الموارنة كرمز، مؤلم وطنياً عندما يأتي على أيدي الأبناء.
لكنّ الأمر عنده كان عابراً، فها هو يدعم «اتفاق الطائف» عام 1989، الذي صار وثيقة الوطن ودستور البلاد، وعلى خطٍّ موازٍ كان يجهد في ترميم الجسور والمشاعر التي ستبدأ مقاومة متصاعدة لخطط السيطرة على لبنان وإخضاعه، وفي هذا السياق شارك بحماسة معروفة في العمل لتأسيس اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي، يوم كان المتربصون بحرّية البلد وبقائه يحفرون في جروح الطائفية، ليبقى هناك بيروت شرقية وبيروت غربية!
بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 سيفتح صفحة المقاومة الساخنة، فيصدر نداء المطارنة الموارنة في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام، الذي دعا صراحةً إلى إنهاء الوجود السوري في لبنان، ويرعى «لقاء قرنة شهوان» الذي يدعو إلى خروج الجيش السوري، كما أنه سيعرب عن مباركته لـ«لقاء البريستول» الذي ضمّ شخصيات سياسية وحزبية من طوائف مختلفة، ولم يتردد لحظة في رعاية مصالحة الجبل التاريخية مع الزعيم وليد جنبلاط في 21 أغسطس (آب) من عام 2001.
كان صوتاً صارخاً بقوة لحرية لبنان وسيادته، وفي مارس (آذار) من عام 2001 أعلنها صراحة من واشنطن عندما قال: «إن من مصلحة لبنان وسوريا المشتركة أن يكون بين البلدين وهما جاران علاقات طيبة ودية... وما دامت إسرائيل تحتل جنوب لبنان كنا نسكت عن وجود الجيش السوري في لبنان، ولكن بعد خروجها لا داعي للسكوت، خصوصاً أنه بعد توقيع اتفاق الطائف بات على هذا الجيش أن يعيد تمركزه في انتظار خروجه من لبنان. إن التدخلات السورية تعود بالضرر على لبنان».
كان مفعماً حتى الصميم بشعار أن «لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة»، ولهذا لم يكن غريباً أن يختار في عظة الميلاد يوم الأحد في عام 2002 أن يغوص إلى الأعماق وهو يقول: «من العبث ادّعاء عبادة الله إذا لم تكن هناك مصالحة أخوية في لبنان، بمعنى أن اللبنانيين بكل أطيافهم ومذاهبهم هم إخوة في الإنسانية والوطن، وإن هذا ما زال يفتقر إليه وطننا الذي ورث من العداء والحروب التي دفعنا إليها الخراب والدمار، ليس في المباني والمرافق وطرق العيش، بل في النفوس والضمائر والإرادات، وهذا هو البلاء الأعظم»!
عندما كان يُسأل البطريرك صفير عن سوريا كان يختار كلاماً يذهب شعارات إلى التاريخ والذاكرة، فقد قال يوماً: «أذهب إلى الشام بعد أن تذهب الشام من لبنان... ليس لسوريا في لبنان حلفاء بل لسوريا في لبنان عملاء... إن التغيير في أرض لبنان يتطلب تغييراً في قلوب اللبنانيين... تسألونني: لماذا لا أزور قصر المهاجرين؟ أين يقع قصر المهاجرين؟ (مقر الرئاسة السورية)».
مات البطريرك صانع الاستقلال الثاني، والذي ترك شعاراً للبنانيين وغيرهم وهو أن «الوطن لا يحمَل في الجيوب، الوطن يُحمَل في القلوب». ويوم الاثنين تلقى الرئيس ميشال عون رسالة تعزية من خادم الحرمين الشريفين حملها السفير السعودي لدى لبنان وليد البخاري، وأعلنت الخارجية السعودية أن الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بعثا ببرقيتي عزاء ومواساة إلى الرئيس اللبناني، وكان البخاري من أول الذين صعدوا إلى بكركي للعزاء، كما فعل نظيره سفير دولة الإمارات حمد سعيد الشامسي.
الشيخ عبد الله بن حمد آل ثاني نائب أمير قطر الشيخ تميم، ورئيس الوزراء الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة، أرسلا برقيتي تعزية، في وقت انهالت برقيات مماثلة من الشيخ محمد العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الذي ثمّن مبادرات الراحل في التعايش والوئام، وصعد وفد من السفراء العرب في بيروت، معزياً، حيث تحدث باسمهم عميد السلك الدبلوماسي العربي السفير الكويتي عبد العال القناعي، معتبراً أنها «خسارة ليست للبنان وحده، بل لمشرقنا العربي حيث كان الراحل رجل سلام ومحبة ووئام حرص دائماً على أن يجمع لا يفرق».
مات البطريرك صفير في وقت يبدو لبنان في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن يستمع اللبنانيون خصوصاً المسؤولين منهم إلى كلماته التي تدعو إلى الوئام والتفاهم والتعايش والحرية والسيادة والاستقلال، وإلى أن الوطن لا نحمله في جيوبنا بل في قلوبنا، لكن العزاء الحقيقي أن نكون قد فهمنا قوله الذي كرره دائماً «لقد قلنا ما قلناه» لشدة ما دعا تكراراً إلى الحرية والسيادة، فكان فعلاً صانع الاستقلال الثاني.