وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
«وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها»
وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
(زهير بن أبي سلمى)
لبنان في عين العاصفة؟ ومتى لم يكن؟ فلم يكن أصلاً خيار لبنان أن يكون في موقعه الجغرافي، فالتاريخ أوجده هنا، في موقع لم يتوقف، منذ فجر التاريخ، عن كونه نقطة تلاقٍ وجبهة مواجهة في آن. ولو راجعنا التاريخ الموثق منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، لكان هذا الأمر جلياً، والشعوب لا خيار لها إن لم يعجبها واقع جغرافيتها، فما عليها إلّا الرحيل أو القهر إن عجزت عن تغيير ظروف واقعها.
مقدّمة وجودية لبحث لا يمكن حصره، لذلك سأحصر الكلام بإيران ولاية الفقيه وتأثير صراعاتها المتعددة على لبنان، من دون الذهاب إلى وقائع تاريخية أهمها الحقبة الصفوية في إيران، وهي حقبة أساسية للواقع القائم اليوم، وذلك لما كان من تأثير عميق لفقهاء جبل عامل الشيعة على الفكر الصفوي. والكلام اليوم عنوانه الصراع الأمريكي - الإيراني وتأثيره على لبنان.
منذ اليوم الأول لانقلاب الوضع من الشاه إلى الولي الفقيه في إيران، سنة 1979، تحوّلت إيران من شرطي الخليج إلى فزّاعة الخليج. وهذا ليس افتراءً على إيران، بل هو أمرٌ فرضه منطق تعميم الثورة الذي طرحه الإمام الخميني بعد الثورة. وفي الوضعين، خدمت إيران الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة أو بأخرى، لذلك فمن الخطأ وصف القضية بالمواجهة الأمريكية - الإيرانية بشكل دائم. فإيران الولي الفقيه، من باب العداء، أعطت للولايات المتحدة الأمريكية منافع أوسع أحياناً مما قدّمه الشاه في حال التبعية شبه التامة. ولا أريد أن أقول هذا الكلام بدافع العدائية، فأنا أرى أنّ صدام حسين مثلاً قام بالشيء نفسه وأكثر بالنسبة لأمريكا وحتى لإسرائيل، عندما أطلق جماح شهوته للسلطة والعظمة وقاد قادسيته متشجعاً بعداء أمريكا مع إيران، فتسبب بإنهاك إيران والعراق والخليج، وأدخلها جميعها في سباق تسلّح غير مسبوق كانت حصيلته حتى اليوم عدة تريليونات من الدولارات، ذهبت بمعظمها إلى أمريكا، ومثلها من الدمار وحيوات لا تقدّر بثمن من أبناء هذه المنطقة المنكوبة.
تاريخياً، بدأ الدخول الإيراني العسكري والأمني إلى لبنان منذ الأسابيع الأولى للثورة في إيران على خطين، الأول من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت واقعة بين مطرقة إسرائيل وسندان حافظ الأسد، فراح ياسر عرفات يبحث عن سند له عند الخميني. الخط الثاني كان في التجمعات السياسية والمذهبية والعسكرية، الشيعية بشكل أساسي ودون حصر. لكن الدخول الواسع لم يحدث إلّا بعد الفراغ الكبير الذي أحدثته حرب 1982 في الوجودين الفلسطيني والسوري العسكريين. ومن هناك بدأ التأثير الخطير للتغلغل الإيراني، المستورد منه والمحلي، من خلال سلسلة طويلة من الأعمال العسكرية، المختلف على تسميتها بين الإرهاب والمقاومة، وبالأخص ما كان خارج نطاق المواجهة المباشرة مع إسرائيل، كتفجير المارينز والقوة الفرنسية والسفارات والخطف والإغتيالات العديدة التي أعلنت مسؤولياتها عنها مجموعات علمنا لاحقاً أنّها تابعة لإيران الجديدة.
منذ ذلك التاريخ، أصبح واقع إيران أساسياً في المعادلة اللبنانية بمختلف أشكالها. وهنا، وبغض النظر عن الغرضية والإنتماء السياسي، فإنّ هذا الوجود، المتمثل بواقع مذهبي معقّد وله أصول تاريخية، معظم تداعياته كانت تتراوح بين سلبية ومدمّرة بالنسبة للبنان. ويستهجن البعض هذا الكلام بالإشارة إلى دور إيران في دعم «حزب الله»، وبالتالي تحرير الجنوب. لكن، ذلك الطرح يستدرج جملة من الفرضيات التي تبدأ ولا تنتهي عند الإحتمالات الأخرى، في حال لم تكن إيران جزءاً من المعادلة! فهناك من كان سيقول إنّ لبنان كان وجد سبلاً أخرى لتحرير أرضه غير واقع تسليم قراره للحرس الثوري الذي أصبح يحتل عملياً القرار السياسي والأمني للبنان.
ولكن ماذا الآن؟ وماذا عن تأثير ما يمكن تسميته اليوم بالمواجهة الأمريكية- الإيرانية؟ فالواقع أصبح واضحاً في هذه اللحظات، ورغم أنّ طبول الحرب تقرع بشدة وبشكل متسارع بعد أحداث الأسبوع الماضي، وإن كان المستقبل ما زال غائماً.
المواجهة في لبنان محصورة في كون «حزب الله» أداة تفخر بكونها جزءاً من الحرس الثوري، الذراع العسكرية والمخابراتية للولي الفقيه، وبغض النظر عن الحق ومن يملكه، وبغض النظر عن أهداف الولايات المتحدة الحالية من هذه المواجهة غير المتكافئة، فإنّ التأثير سلبي حتى الآن على المستويات السياسية والأمنية والإقتصادية بالنسبة للبنان. ووضعنا اليوم ما هو إلّا تراكم عمره عدة عقود من غياب قرار الدولة، وصل اليوم إلى مرحلة لم يعد من الممكن فيها اللعب على الحبال، أحياناً بالألفاظ والشعارات، وأحياناً أخرى باتخاذ موقف الحياد المشابه لحياد نعامة تدفن رأسها في الرمال.
الوضع خطير سواء حدثت المواجهة عسكرياً أم لم تحدث. فحتى لو انتهت المواجهة باتفاق ما، يؤدي إلى تقليم أظافر إيران، فإنّ فترة الإنتظار شديدة الخطورة بتداعياتها على مختلف الأصعدة. ويكفي أن نذكر مثلاً بسيطاً، هو بالتأكيد في حسبان «حزب الله»، وهو تحول حوالى 50 ألف موظف في مؤسساته المتعددة، من عسكرية ومدنية، إلى عاطلين عن العمل، مع زوال ما يقدّر بمليار دولار دعم، قسمه الأكبر من إيران. أما في حال ذهاب المواجهة إلى أكثر من ذلك، فإنّ الأمور عندها ستكون مرهونة بحجم ومدة ما قد يحدث من عمليات عسكرية.
لبنان يبدو اليوم كمَن يسير على حافة ضّيقة وزلقة فوق حقل الغام، يحاول بشكل مثير للشفقة العبور إلى نوع من الإستقرار متكئاً على توازن وطني ودولي غير واضح المعالم، وفوقها وأهمها اليوم هي التحدّيات المالية الإقتصادية والأمنية العسكرية، حيث انّ أي مفاجأة سلبية على إحدى الجبهتين يمكن أن تشكّل سبباً للوقوع في المحظور. قد يكون ما في يدنا هو الأمل بأن تكون الكارثة علينا أقل من المتوقع، أو أن يفهم من ربط مصيره بإيران، أنّ وقت خيار المصلحة المحلية أصبح ملحاً وعليه أن يختار لجمهوره، على الأقل، خيار السلامة.