على هامش وداع نصرالله بطرس صفير إلى مثواه، أشعر من واجبي أن أسوق الملاحظات الآتية، متخطيًا مناسبة الموت والمشاعر المرافقة، في محاولةٍ متواضعة لاستبصار المعاني والدلالات الوطنيّة:
عندما لا يبقى للمارونيّة، بل للموارنة أنفسهم، أقصد للجلّ الأعظم من طبقتهم السياسيّة، وقادتهم، وأحزابهم، ولغالبيّة شعبهم، سوى الرثاء، أو الهجاء، أو المديح، أو الزجل، أو التقاتل والتذابح، واستذكار الموتى، والاستنجاد بالتواريخ والأمجاد بهدف الالتجاء والتحصّن والتباهي، إخفاءً لما هم عليه من وهن، آنذاك يجب أن يشعر المرء بالقلق على واقعهم وعلى مصيرهم. وها أنا أقول الآن بالحبر الملآن، إنّي أشعر بالقلق على حاضر المارونيّة والموارنة هؤلاء، وعلى مستقبلهم، لأنّهم إنّما يعبّرون بأحوالهم ومظاهرهم هذه، على اختلاف توجّهاتها، عن قحطٍ عظيم، وعن انعدام رؤيا، الأمر الذي يثير الشفقة عليهم بقدر ما يثير يأسَ الذين يحاولون الخروج بهم من قوقعاتهم ودوائرهم المغلقة إلى الرحابات والرؤى الثقافيّة الفكريّة السياسيّة الوطنيّة والإنسانيّة الخلّاقة.
عندما لا يبقى للبنانيين آخرين، للسنّيّة والشيعيّة، بل للسنّة وللشيعة أنفسهم، على وجه الخصوص، سوى أن يكونوا نسخًا مقلِّدة للجلّ الأعظم من الطبقة السياسيّة لدى الموارنة، وقادتهم، وأحزابهم، ولغالبيّة شعبهم، آنذاك يجب أن يشعر المرء بالقلق، لا على واقع هؤلاء السنّة والشيعة، ومصيرهم فحسب، بل على لبنان، كلّ لبنان، كيانًا ومكوّناتٍ ودولة.
إذا كنتُ أسمّي الموارنة والسنّة والشيعة (لا بدّ أن أسمّي الدروز على السويّة نفسها)، فليس انتقاصًا من أهل المذاهب والطوائف الأخرى، وإنّما من باب تسمية الكلّ المذهبيّ الطائفيّ الدينيّ باسم الجزء، ليس إلّا. علمًا أنّي حاشا أن أحصر المواطنين اللبنانيين بمذاهبهم وطوائفهم وانتماءاتهم الدينيّة.
عندما تكون المارونيّة السياسيّة والوطنيّة (الموارنة) في حالٍ كالحال التي هي عليها (وهي ليست موضع حسدٍ راهنٍ من أحد)، وعندما تكون السنّية السياسيّة والوطنيّة، والشيعيّة السيّاسيّة والوطنيّة (السنّة والشيعة)، في الحالَين اللتين هما عليهما (أتراجعًا نسبيًّا هنا، أم صعودًا مدوّيًا هناك)، وذلك كلّه على حساب الوطنيّة اللبنانيّة الدولتيّة، آنذاك يجب عدم القلق على المارونيّة والموارنة فحسب، بل على السنّيّة والشيعيّة، وعلى السنّة والشيعة، بل على لبنان بالذات.
عندما يكون الأداء السياسيّ والوطنيّ لهؤلاء الموارنة والسنّة والشيعة (من باب تسمية الكلّ الطائفيّ المذهبيّ الدينيّ باسم هذه المكوّنات الثلاثة) في السلطة والحكم والحكومة ومجلس النوّاب، وباقي مؤسسات الدولة، على ما هو عليه من انحطاطٍ أخلاقيٍّ ومعياريٍّ وقيميٍّ وقانونيٍّ ودستوريٍّ وشخصيٍّ، آنذاك يجب الجهر بالخوف على لبنان.
ليست المارونيّة السياسيّة والوطنيّة (الموارنة؟!) إلى أفولٍ فحسب، بل السنّيًة والشيعيّة. عاجلًا أم آجلًا. تذكّروا جيّدًا: عاجلًا أم آجلًا.
في وداع نصرالله بطرس صفير، ثمّة وداعٌ مضمَرٌ للمارونيّة (للموارنة؟!)، بل وداعٌ مضمَرٌ للبنان.
يجب أن يُحال دون ذلك بالعقل والوطنيّة (وبرسالة مارون الناسك). إذا ليس من أجل هؤلاء الذين يصادرون الموارنة ومصيرهم (والذين يصادرون السنّة والشيعة ومصيرهما)، فمن أجل فكرة المارونيّة الأصيلة القائمة على الشهادة للحقّ وللحريّة. ومن أجل لبنان واللبنانيين. اللهمّ قد بلّغتُ.