لن يترك «حزب الله» نفسه حتى اللحظة الأخيرة لمعرفة ما سيؤول إليه مصير شد الحبال الأميركي-الإيراني، خصوصاً انّ الحزب يدرك انّ الضغط الأميركي أكبر من ايّ مرة ويجري على وقع مشروع سياسي يحضَّر للمنطقة، كما يدرك انّ الاستثمار بعامل الوقت لم يعد بهذه السهولة، وأنّ القدرة على ضرب الدينامية الأميركية ضئيلة جداً، وبالتالي بدلاً من اعتماد السياسة الانتظارية ومواجهة قدره تبعاً لمؤدّيات التطورات سيحاول استباق هذه التطورات عن طريق فتح الخيارات والاحتمالات تجنّباً لوضعه أمام الأمر الواقع والخيار الأوحد.
ومن هذا المنطلق، يُفترض توقُّع دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون الى طاولة حوار لبحث الاستراتيجية الدفاعية بتمنٍ من «حزب الله» الذي يُفترض أنه يريد ضربَ عصفورين بحجر واحد: أن يحصِّن وضعه استباقاً للتطورات، وأن يكون في موقع المبادر وليس المتلقي لنتيجة الصراع الأميركي-الإيراني، فإذا تجاوبت طهران مع الشروط الأميركية يكون في موقع المبادر وليس المتلقي، وفي حال عدم تجاوبها يعني دخول المنطقة في عاصفة لن تُبقي الأخضر ولا اليابس، فيما كل ما يحصل لغاية الآن يندرج في سياق اللعب على حافة الهاوية.
فطهران تتجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن وتعلن رفضها للحرب على لسان المرشد الإيراني تحديداً، وبدورها واشنطن لا تريد الحرب ولكنها تريد إلزام إيران بشروطها الـ12 وتحديداً في ثلاثة ملفات أساسية: النووي والباليستي والدور على مستوى المنطقة، وكل التوقعات تشير إلى انّ طهران تريد أن تتجنّب حدّين: الاستسلام، والحرب، مقابل تحسين شروط التسوية مع واشنطن واستطراداً المجتمع الدولي.
وبانتظار أن تستوي الأمور في الأسابيع والأشهر المقبلة ستحاول طهران قدر المستطاع أن تؤخّر الساعة الصفر علّ الظروف تتبدل وتتمكن من مواصلة مشروعها الثوري، ولكن عندما تتثبّت من أن لا مفرّ ولا مهرب من الساعة الصفر، أي التسوية والتنازل، فستلتزم بشروط المرحلة والسقف المطلوب.
وانخراط إيران في التسوية يعني انخراط المكوّنات المرتبطة بها عضوياً وفي طليعتها «حزب الله»، ولا يجب استبعاد احتمال أن تسعى إيران إلى تحصيل بعض المكاسب السياسية لهذه المكوّنات تحت سقف التسوية الكبرى المتصلة بها على مستوى المنطقة، والتسويات الصغرى المتصلة بالمكوّنات المرتبطة بها من قبيل مثلاً ضمان حضور أكبر للحوثي في اليمن والحزب في لبنان وغيرهما طبعاً، وبالتالي لا يُفترض التقليل من هذا الاحتمال، لا سيما انّ الهمّ الأساس لواشنطن قد يكون وضع طهران تحت سقف الشرعية الدولية من دون التوقف مطوّلاً أمام تعديلات جزئية في الأنظمة السياسية.
فالمنطقة أمام مرحلة جديدة، وهذه المرحلة تستدعي من كل الأطراف مواكبتها بجهوزية تامة بدءاً من التمسّك بسياسة التحييد أو النأي بالنفس، وصولاً إلى التمسّك بالدستور وتوازناته، ومن الخطأ التعامل مع المتغيرات المقبلة بشكل مبسّط على قاعدة انّ التسوية في المنطقة ستؤدّي إلى انهيار التسوية في لبنان، فهذه المعادلات المبسّطة لا تستوي مع دولة ومكوّنات تريد أن تقوم بالمستحيل من أجل الحفاظ على ماء وجهها من جهة، وعلى أدوارها ولو السياسية وليس العسكرية من جهة ثانية، وبالتالي يجب الاستعداد جيداً لهذه المرحلة عن طريق فتح قنوات التواصل الداخلية والخارجية بما يضمن عدم المساس بجوهر لبنان دوراً وتركيبة.
ويُخطئ مَن يعتبر انّ التسوية الأميركية مع إيران ستؤدي إلى غالب ومغلوب في المنطقة أو إلى انقلاب في المشهد السياسي، لأنّ مفهوم التسوية هو التنازل في مكان مقابل نيل المكاسب في مكان آخر، وإذا كان المكسب الأساس أن يحافظ النظام الإيراني على وجوده من دون اية شروط إضافية كون المعروض عليه التخلّي عن دوره ونقطة على السطر، فإنّ مجرد استمراره يعني ضمان استمرار المكوّنات الأخرى ومحاولة تحصيل بعض المكاسب السياسية.
وفي هذا السياق لا يجب استبعاد مثلاً أن يطرح «حزب الله» إبقاء السلاح بحوزته مع تعهُّد بعدم استخدامه إلّا بقرار حكومي، وذلك في استعادة لطرح الدكتور سمير جعجع في إحدى جولات الحوار الوطني، وقد طرحه رئيس «القوات» حينذاك كحلّ مرحلي وموقت بانتظار أن يسلّم الحزب سلاحه، وهدفه من هذا الطرح كان الحؤول دون أن يستخدمه «حزب الله» لأهداف إيرانية، وبالتالي أن يقطع الطريق عليه محوِّلاً أمرة استخدامه إلى الدولة اللبنانية، ومرحِّلاً تسليمه إلى الظروف الخارجية كون الحزب ليس بوارد أساساً أن يسلّمَه من تلقاء نفسه.
ولكنّ الظرف اليوم اختلف عمّا كان عليه في الأمس، إذ إنّ اللحظة الدولية للتسوية في المنطقة باتت على قاب قوسين أو أدنى، وبالتالي المطروح أن يسلِّم الحزب سلاحه وليس وضع إمرة استخدامه فقط بيد الدولة، فما كان يطرحه جعجع كناية عن تسوية داخلية جزئية هدفها حماية لبنان بانتظار تبلور الظروف الخارجية، ولكن مع تبلور هذه الظروف أصبح المطروح الوصول إلى تسوية لبنانية شاملة تعيد الاعتبارَ لدور الدولة أولاً وأخيراً ومن دون أيّ سلاح خارجها، خصوصاً انّ رفض الحزب لطرح جعجع أثبت انّ قرار استخدام هذا السلاح هو إيراني وانّ الحزب يريد إبقاءَه بيد طهران لا الدولة اللبنانية.
وما تقدّم هو احتمال يضاف إلى احتمال المطالبة بتعديلات دستورية، ولا يكفي الإتّكاء على رفض هذا الفريق او ذاك لهذا الاحتمال او لتلك التعديلات، إنما يجب التهيُّؤ لشتى الاحتمالات مع دول كبرى أولويتها دائماً ضمان مصالحها وأهدافها الكبرى، خصوصاً أنه في ايّ مفاوضات تستدعي التنازلات يجب توقّع ايّ شيء وعدم النوم على حرير المعادلات المبسّطة.