الثقافة (Culture) وجهة حياتية محددة من بين وجهات أخرى محتملة، تسلكها جماعة إنسانية خاصة ولا تسلكها أخرى. خصوصية الثقافة، يعنى ارتباطها بظرفية زمانية ومكانية خاصة، لا يمكنها أن تشمل كل البشر بحكم عرضية عواملها ومحدودية مجالها. ما يفرض حداً فاصلاً، بعضه جلي (قانوني، سلوكي، مادي) وبعضه الآخر ضمني (فكري، روحي)، بين الجماعات. يجعل الشخص لا يتحدد بفرديته الخالصة (كائن عاقل، حر، واع، يقرر مصيره لوحده، يملك نتاج عمله)، بل بصفته منتميا لهوية، ولحقلِ وجودٍ نَحنُوِيٍ Wenessخاص، يكون بمثابة الارضية التي يطل بها على العالم، والمدى الذي يحقق عبره إمكاناته وقدراته.
الثقافة إذا، واقعة بين الإنسانية الكلية التي تحمل معها مشتركات ضرورية وكلية تتعلق بالنوع الإنساني من جهة، وبين الفردية وسط تحققاتها الجزئية وممكناتها العرضية من جهة أخرى. ما يجعل أية ثقافة خاصة لا تحمل صورة الضرورة المنطقية التي تجعلها ثابثة وقارة، بل تبقى ظاهرة عرضية يمكن تجاوزها وتقبل التعديل والتغيير وحتى الإلغاء أحياناً، وتكون غير شاملة إيضاً، فلا يندرج في داخلها كل أبناء البشر وتعبر عنهم، بل هي إمكان من بين إمكانات أخرى لا متناهية توفرت فيها شروط التحقق الموضوعية. بالمقابل هي ليست جزئية متذرية ذات تحقق عابر منصرم، لأنها ترتكز إلى مؤسسات وانتظامات اجتماعية تحمل قوة الاستمرار وقدرة الإتساع. الثقافة إذا: إنسانية مشخصة وفردية مؤنسنة في آن، ضرورة سيالة، كلية لم تبلغ درجة الشمول، وأصيلة بأصالة الفرد والنوع الإنسانيين معاً.
اعتبار الثقافة معطى أولياً، بنفس درجة اعتبارنا للفرد والنوع الإنسانيين، تعرض لاهتزاز شديد في فترة الحداثة، حين انطلقت من الفرد العاقل صاحب الإرادة الواعية، المنشغل حصراً بأمنه وسلامته وحفظ ما يمتلكه، أساساً أولياً في تأسيس انتظامه السياسي، ومبادئ خلقيته، وأرضية انتماءاته وإلزاماته.
إقرا أيضا: فشل الثورة وسؤال الدولة
وقد صنف هابرماس المجتمعات إلى مجتمعات قبل تقليدية، تقليدية، وبعد تقليدية. واعتبر أن المجتمعات التقليدية تقوم على صلة الرحم والتقاليد الدينية، بينما المجتمعات الحديثة القائمة على الخلقية العمومية والقانون الشرعي هي مجتمعات ما بعد تقليدية، يكون فيها الأفراد أقدر على تنسيق أفعالهم والحفاظ على النظام الاجتماعي من الافراد التقليديين وما قبل التقليديين. هذا يعني أن الانتظام الجديد يتطلب إزاحة التضامنات الثقافية والاجتماعية التي نقلها التاريخ إلينا، ولا تقوم على معايير صحة عقلية أو أخلاقية خالصة، بل أساسها الذاكرة والوجدان وروابط الدم والقرابة والسلوك العفوي. ما يؤكد أن الثقافات الخاصة لم يعد لها مكان ولا تحظى بالاعتراف بصفتها تكوينات أصيلة.
المسعى الحداثوي لإحداث قطيعة جذرية مع تراث القرون الوسطى، تسبب بتجاهل القيمة الثقافية للجماعات، وحصر المعطى البديهي الأول في الفرد الحر والعاقل، الذي يعنيه أمنه وملكيته قبل أي شيء آخر، أي قبل ثقافته الخاصة. وهو أمر نلمسه في التنظيرات السياسية التي اعتبرت الانتظام الاجتماعي، بما فيه السلطة، كائناً اصطناعيا (توماس هوبز)، وفناً يتوسط الحسابات العقلية لحل التناقضات وضمان مصالح الافراد وبناء الإجماع (اسبينوزا). مُحيِّدةً بذلك عناصر التعاطف والوجدان والإنتماء، ومختزلة الفرد في ظاهرية مسطحة، مُرجِعة أفعاله إلى حسابات باردة وإجراءات أداتية خالصة.
الثقة المفرطة بالعقل الفردي، صاحبها تشكيك كامل بسلطة التراث، وبالتالي التنكر للثقافات المتدفقة معها، والتعامل معها بصفتها فلول اللاعقل التي يجب تصفيتها، والشكل البدائي الأول للإنسان، أي صورة ما قبل الفردية، وحالة ما قبل العقل. مع تصوير الدولة الشكل الأعلى والأبرز للحرية الفردية، لم يعد هنالك مكان للثقافات الخاصة داخل الترتيب الحداثوي الجديد، بحكم اعتبارها نوازع لا عقلية منذ أن صار العقل في عصري الحداثة والتنوير أداة سيطرة وتحكم، وأضحت العقلانية الأداتية الشكل السائد للمعرفة.
هاجم عصر التنوير الحكم المسبق بشدة (ديكارت، كانط)، لجهة كونه سلطة تفرض نفسها على الفرد، وأراد الإحالة إلى البداهة العقلية التي لا يمكن التنكر لها. وقد عبر كانط عن ذلك بتعريفه للتنوير : "تشجع على استخدام فهمك الخاص". صارت المعرفة بالتالي نتاجاً عقلياً خالصاً لا نتاجاً إنسانياً، ما قلل من فرادة الشخص وخصوصية الجماعات، وعمم إجراء التشميل، الذي يجعل الفرد الإنساني وحدة قابلة للتكرار، ما سهل إيجاد المجتمع الرأسمالي الذي يقوم على مجتمع مستهلكين خانعين أو متكيفين، وخلق ثقافة جمهور متجانس، يحمل أطر تفكير موحدة، وبالتالي ثقافة شمولية، تهضم الثقافات الفرعية وتبتلعها وتذيبها في داخلها.
نتيجة لذلك، نشأ المجتمع الحديث على أسس تضامنية طوعية ذات طبيعة عقلية، وأمكن تنظيم المجتمع على قواعد كلية تمحي الفوارق بين الافراد، ونشأت ثقافة السوق التي تحقق تجانساً بين افراد المجتمع إلى حد بعيد. فالثورة الصناعية وما استتبعها من ثقافة الاستهلاك ونمط الحياة اليومية، وحَّدت أسلوب العيش وأنماط الحياة وخلقت تماثلاً في التفضيلات الحياتية وأطر العلاقات والتضامنات الاجتماعية، فَرَضَ على الناس أن يكونوا نسخات طبق الأصل جد متناسقة، لتصبح الثقافات الفرعية ثانوية وهامشية بالقياس إلى الثقافة الشاملة التي فرضتها العقلنة الشاملة للدولة، وعممتها بنى الإنتاج والدعاية. فلم تعد الثقافات الخاصة مُحدِّدَة لشخصية الفرد وتطلعاته مثلما كانت في السابق، بل استُبِدلت بتقنين وسيطرة شاملة من الدولة فرضت انتظاماً وانضباطاً موحداً في نظام الحقوق والواجبات، ورغبات وأنماط رفاهية وطريقة حياة ولدها نظام الإنتاج الضخم الجديد، قابلة للتعميم والقياس والتوقع وإعادة الإنتاج.
لذلك نجد السوق اتسم بلا مبالاة تجاه كل من يحمل سمة الولادة، وهي لامبالاة جاءت نتيجة سلوك عقل التنوير بالتجريد تجاه موضوعاته بحذف خصوصياتها وتصفية جزئيتها والوصول إلى كليات ما هي عليه، لتكون قابلة للسيطرة وإعادة الإنتاج، حيث لم تعد العلاقة مع الطبيعة علاقة محاكاة، بل علاقة السيطرة عليها من خلال العمل.
هذا الامر ضيق التعددية الثقافية في المجال الغربي إلى حد بعيد، وبات التجانس سمة المجتمع الغربي، حيث توحدت التطلعات وأنماط العيش ومعايير التفضيل بين الأفراد، ما جفف منابع الهوية الخاصة، وكفل للزمن تذويبها، بحكم أن حيز اتصالها بالفرد وتأثيرها عليه بات ضيقاً ولم يعد لها حضوراً فعلياً في مجريات حياته اليومية، أو في دائرة التداول العام، الذي بات حقلاً منحصراً بتحسين وسائل العيش المتشابهة وتأمين شروط رفاه واحدة عند الجميع.
نحن إذا أمام نموذج دولة اتخذت صفة الشمول في المجال الغربي، لمجتمع موحد ومتحد على خلفيات متقاربة ومعايير ونمط عيش موحدتين، اتخذت الهويات معها وضعية هامشية وعرضية رغم الاعترف بها، لكنه اعتراف لا بصفتها مكونات قائمة بذاتها وأصيلة بل بصفتها شكل تعبير عن أفراد متضامنين. وهو نموذج معاكس للنموذج العربي، الذي يقوم على التخارج بين الدولة والمجتمع، أي اعتبار الدولة شأناً متعالياً على إرادة الأفراد وحقل المجتمع وتفاعلاته. وهو أمر جعل الهوية الخاصة أساس الاجتماع وأصل التضامن، أي اجتماع العصبية (ابن خلدون) التي لا تقوم على قواعد عقلانية، بقدر ما تحددها رابطة الدم أو العادة الراسخة الممتدة من الأجيال البعيدة. هي روابط موجودة كذلك من دون أن نفسر كيف ولماذا، ما تسبب بتخارج فاضح بين العقل ورابطة الاجتماع.
هذا يفرض تبايناً جذرياً بين وضعية الثقافات في المجال العربي ووضعيتها في المجال الغربي. حيث الأصل في المجال العربي هو الهويات الخاصة التي ما تزال مصدر تكوين الفرد وأساس انتمائه، مقابل الهوية الاجتماعية الجامعة في الغرب ذات الطبيعة الكلية التي توحد الأفراد في نسق حياتي وقيمي مشتركين. وحين تكون الدولة ملاذ الفرد في الغرب من أية صيغ ثقافية خاصة، فإن الهوية الدينية أو العرقية أو القبلية مصدر أمنه وأمانه وطريق حماية له من سطوة الدولة العربية. بذلك، لا تعود التضامنات القائمة على اعتبارات عقلية هي أساس الاجتماع العربي، بل الهوية (أو الهويات) الخاصة التي لا تحتاج إلى مسوغ عقلي كلي، بل تكفيها شحنات وجدانية وعاطفية وتيار تجارب واختبارات جماعية ممتدة في الزمن.
هذا الوضع يؤكد أصالة الهوية الخاصة في المجال العربي، أي اعتبارها المصدر الطبيعي والمعطى البديهي الأول لأي تكوين سياسي أو بناء متحدي، ويجعل كل متعلقات المجال العام، من دولة بصيغتها الكلية ومجتمع بقيمه الجامعة، أموراً عرضية يُبْقي تحققها في دائرة الصدفة المحتملة لا الضرورة العقلية أو القانون الأخلاقي. مقابل عرضية الهويات الخاصة وأصالة الدولة الكلية والمجتمع المتجانس في المجال الغربي.
رهان الثقافات في المجال الغربي يكمن في تقليص فائض العقلنة التي اتخذت مهمة أداتية أسهمت في نشوء شبكات سيطرة وشاملة همشت خصوصية الفرد وجعلت روابطه القريبة المشخصنة ثانوية وغير ذات قيمة أو فائدة.
في حين يكمن رهان الثقافة في المجال العربي، للخروج من عالمها القديم المحتضر وموتها الوشيك، في تقليص سلطة الهويات الخاصة الغارقة في السحر، وتحرير الفرد من ارتباطاته البدئية والضيقة الموغلة في التجزئة، ليكون بالإمكان بناء عقلنة شاملة في تداول السلطة وممارستها، وتوليد تضامنات عابرة للثقافات الراسخة.