نشرت مجلة "إيكونوميست" تقريرا، تقول فيه إن قطار الانتصار جال ثماني مناطق زمنية "تغطي روسيا" ذهابا وإيابا قبل الاستقرار خارج موسكو الشهر الماضي ليصبح معرضا عسكريا.
ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن "القطار سار سيارة تلو أخرى، محملا بالغنائم من سوريا، ومعه أحمال كبيرة من مشاعر الوطنية ونظريات المؤامرة، فهناك كانت سيارة (همفي) أمريكية تحمل علامات الإصابة في المعارك، وهناك تحولت شاحنات الـ(بيك أب) إلى أداة للمهاجمين الانتحاريين، ومن بين المعروضات قنابل مصنعة بيتيا، بما فيها قنبلة مخبأة في علبة بيرة روسية".
وتقول المجلة إنه وسط الموسيقى التي تعزفها الفرق العسكرية، يسرد الجنود المشاركون كيف تدخلت روسيا عام 2015 لتمنع سقوط سوريا في يد الجهاديين، خاصة تنظيم الدولة، الذين كانت تمولهم الناتو سرا، وقال أحد المرشدين: "كثير مما ترون هنا يمكن أن يكون إمدادا مباشرا من أمريكا.. وهذا ليس رأيي أنا فقط، فالكثيرون يعتقدون ذلك"، علاوة على أن روسيا حاربت الكثير من المجموعات غير تنظيم الدولة، وأن أمريكا هي التي كان فعلها الأكبر لتحطيم "خلافة" تنظيم الدولة.
ويلفت التقرير إلى أنه تم عرض أسلحة كيماوية وبراميل من المواد الكيماوية الأولية، مكتوب عليها باللغة الإنجليزية، في محاولة واضحة لاتهام الثوار باستخدام غاز الكلور في دوما عام 2018، وكانت القوى الغربية اتهمت نظام بشار الأسد، وقامت بضرب قواعد جوية انتقاما لذلك.
وتعلق المجلة قائلة: "إن نحينا الدعاية جانبا، فإن روسيا فرحة جدا بالنصر، لقد أنقذت الأسد مقابل كلفة قليلة لها، وأصبحت هي صانع الملك في سوريا، وعادت بصفتها صانع قرار سياسي في الشرق الأوسط لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا مختلف عن تجربة أمريكا في غزو العراق، التي تحولت إلى هزيمة دموية، أو الأوروبيين الغربيين في ليبيا للإطاحة بالقذافي فتسببوا بانقسام البلد، والأهم من ذلك هو كسر الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، فيظهر أن روسيا لم تعد (قوة إقليمية) كما وصفها أوباما، بل أصبحت قوة عالمية".
ويفيد التقرير بأن "قطار (الاختراق السوري) يحيي تقليدا قديما يسمى بالروسية (أجيتبويزد) أي قطار التحريض، فمثلا كان ستالين يستعرض الانتصارات السوفييتيىة على النازيين، وعندما وصل هذا القطار الأخير إلى موسكو كان يهتف الجنود الشباب المتعلقون بدبابة (إلى برلين)، وبحسب السلطات فإن أكثر من مليون روسي جاءوا لمشاهدة الغنائم".
وتنقل المجلة عن أنتوف سيدوروف، الذي يعمل في المبيعات، والذي كان سابقا في البحرية الروسية، قوله: "لم يكونوا يقاتلون ضد رجال قبائل يطلقون السهام، لكن ضد أناس يملكون إمكانات تقنية عالية ودبابات ومصفحات ومدافع هاون"، وأضاف أنه لمحاربة الإرهاب في روسيا فإن "علينا أن نحاربه خارج حدودنا".
ويجد التقرير أن "روسيا قد فاجأت نفسها بشجاعتها هذه، فالكثير من الروس يتذكرون كيف ساعد التدخل في أفغانستان عام 1997 على تدمير الاتحاد السوفييتي، وحرب الروس في جورجيا عام 2008 كشفت عن الكثير من العيوب، ليس أقلها الأداء الضعيف للقوات الجوية، وأدى ضمها للقرم، وحربها غير المعلنة في شرق أوكرانيا إلى عقوبات غربية وعزلة".
وتورد المجلة نقلا عن مستشار الحكومة الروسية للسياسة الخارجية فيودور لاكيانوف، قوله: "كان النجاح العسكري أكبر مما توقع أحد.. حيث أثبتت روسيا درجة من الفعالية في سوريا، من خلال استخدام القوات العسكرية مقارنة مع تجربتين سابقتين في جورجيا وأوكرانيا، وسياسيا، كانت المفاجأة أكبر".
وينوه التقرير إلى أن "موسكو تحولت إلى مركز لدبلوماسية الشرق الأوسط، ففي عام 2017 كان الملك سلمان هو أول ملك سعودي يزور روسيا، وقام بنيامين نتنياهو بمقابلة فلاديمير بوتين أكثر من عشر مرات منذ التدخل الروسي في سوريا، ويفتخر الدبلوماسيون الروس، الذين قضوا عقودا وهم يراقبون إدارة أمريكا لعملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بأن على أمريكا الآن أن تراقب بينما تقوم روسيا وتركيا وإيران بالتفاوض على مستقبل سوريا"
وتذكر المجلة أنه بعد أن صمت أذنيها عن التحذيرات من كارثة إنسانية، فإن الحكومة السورية استأنفت مدعومة بالطيران الروسي عملياتها في محافظة إدلب، آخر معقل لا يزال في يد الثوار.
ويذهب التقرير إلى أن "الصادم هو أن روسيا استطاعت أن تصادق الأطراف كلها في المنطقة، بالرغم من التناقضات المريرة: إسرائيل وإيران، تركيا والأكراد، السعودية وقطر، أما بالنسبة لقيادات الجيش الروسي فكانت سوريا ميدانا لتجريب التكتيكات والأسلحة ومعرضا لتصدير الأسلحة".
وتشير المجلة إلى أن روسيا والسعودية قامتا بعقد صفقة غير مسبوقة في أوائل عام 2017 للحد من إنتاج النفط، وساعدت اتفاقية ما عرف باتفاقية (OPEC-plus) على رفع الأسعار التي انهارت إلى أقل من 30 دولارا للبرميل عام 2016 إلى المستوى الحالي 60 دولارا، وما كان للاتفاقية أن تتم لولا الوضع الإقليمي الأفضل لروسيا، بحسب لاكيانوف.
ويبين التقرير أنه "لذلك، فإن هناك اختيارا جديدا لروسيا في العالم، فقد استخدم بوتين نجاحه السوري للاستفادة في أماكن أخرى، فهو يخطط لعقد قمة للزعماء الأفارقة في تشرين الأول/ أكتوبر، وقام بإرسال المستشارين والشركات العسكرية الخاصة لمساعدة بعض المستبدين، بالإضافة إلى أن روسيا تساعد في دعم نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، وهذه الأيام أصبحت أمريكا هي التي تشكو من تلاعب روسيا في مجال نفوذها، وليس العكس".
وترى المجلة أن "هذا السباق ناتج عن قناعة أيديولوجية أكثر منها مصلحة ذاتية، لكن إن كانت أمريكا تنادي بالديمقراطية حتى حديثا، فإن روسيا هي أكبر المدافعين عن حكم الفرد المطلق، على الأقل بالنسبة لحكام العرب".
ويلفت التقرير إلى أن مراقبي الكرملين يعتقدون بأن شيئا من هذا كله كان في بال بوتين عندما أمر بإرسال قواته إلى سوريا، وكانت أولويته منع انهيار نظام الأسد، والخطر بأن تصبح سوريا مصدرة للجهادية إلى روسيا، وسبب آخر هو الخروج من العزلة الدبلوماسية التي واجهها بسبب أوكرانيا.
وتتساءل المجلة: "كيف نجحت روسيا حيث فشل الآخرون؟ يمكن عزو ذلك جزئيا إلى استيعاب دروس فشل أمريكا في العراق، والاعتماد بشكل كبير على القوة الجوية والمقاتلين بالوكالة على الأرض: الجيش السوري والقوات الإيرانية وحزب الله وغيرهم، بالإضافة إلى أنها استفادت من تجربة المستعربين الذين رعاهم يفجيني بريكاموف، وهو وزير خارجية سابق".
وينقل التقرير عن أحد المفكرين الروس، قوله إن "دمشق أقرب إلى سوتشي من أكثر المدن الأوروبية.. وروسيا تشعر بقرب من الشرق الأوسط وذلك جزئيا بسبب إرث الإمبراطورية البيزنطية".
وتنوه المجلة إلى أن إسرائيل تتذكر أن الاتحاد السوفييتي كان أول دولة تعترف بإسرائيل، وقدمت لها أسلحة ضرورية عبر تشكوسلوفاكيا، فيما تتذكر السعودية أن الاتحاد السوفييتي كان أول بلد يقيم علاقات دبلوماسية مع المملكة الناشئة عام 1926، (ولكن للأسف أعدم السفير السوفييتي خلال عمليات التطهير التي قام بها ستالين).
ويقول التقرير إن "المفارقة تؤدي دور أيضا، فبوتين لا يهمه كثيرا رأي الشعب، أو قيام المجتمع المدني بإحداث ضجة حول أفعال روسيا، وهو لا يسأل عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأشار أحد الدبلوماسيين العرب بالقول: (لدينا مصلحة مشتركة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية)، وفي نظر الزعماء العرب، تخلى أوباما عن ديكتاتور مصر، حسني مبارك، في الوقت الذي وقف فيه بوتين مع الأسد الحقير، وحتى إن كان ترامب يميل للرجال الأقوياء، إلا أنهم يجدونه زئبقيا، وقال الدبلوماسي: (نختلف مع روسيا في أمور كثيرة، لكن عندما يلتزم بوتين بشيء فإنه يقوم به)، والغريب هو صمت كل من السعودية وإسرائيل تجاه منح روسيا غطاء جويا (للمحور الشيعي)، وبدلا من ذلك تقولان إن روسيا تشكل ثقلا مقابلا لإيران في سوريا".
وتقول المجلة: "ربما يكون سبب تمكن روسيا من الحديث مع الجميع في المنطقة هو أنها ليست أمريكا، فبالنسبة لمعظمهم تبقى أمريكا هي الحامية المهمة لهم، ولذلك فإن غضبهم أعظم عندما تظهر أنها بدأت بفقد الاهتمام، وخشيت إسرائيل وحكام الخليج عندما قام أوباما بالتوصل إلى اتفاقية نووية مع إيران عام 2015 مقابل رفع العقوبات، ولا يهتمون لكون روسيا هي التي تبيع إيران تكنولوجيا نووية مدنية، أو أنها أقامت مع إيران علاقات شراكة للتحايل على العقوبات، وكون الحكام يغازلون روسيا فذلك بشكل كبير للحصول على التزام أمريكا بحمايتهم".
ويفيد التقرير بأنه "وسط الافتخار الكبير في موسكو، فإن هناك أيضا قلقا، فقد تكون الأراضي الروسية شاسعة، إلا أن الاقتصاد الروسي لا يزيد على حجم اقتصاد كوريا الجنوبية، وتراجع دخل روسيا على مدى خمسة أعوام متتابعة، ولا يوجد تأييد قوي للحرب: فبحسب مركز الاستطلاعات المستقل (ليفادا)، فإن 35% من الروس لا يوافقون على سياسة روسيا في سوريا، و51% يؤيدون، لكن الغالبية ترى أنه يجب إنهاء العملية العسكرية".
وتعتقد المجلة أن "الرأي قد يتحول إلى عدوانية أن سارت الأمور بشكل سيئ في سوريا، وهو ما يعرف المسؤولون الروس أنه ممكن جدا، فهم يتعلمون درسا آخر من حرب أمريكا في العراق: من الأسهل تحقيق انتصار عسكري قصير الأمد من التوصل إلى تسوية سياسية دائمة، وقليل من البلدان لديها استعداد أن تدفع لإصلاح الدمار الذي تسببت به، بالإضافة إلى أن روسيا متورطة بحليفها المحلي، فالأسد قوي بما فيه الكفاية ليرفض عروض روسيا لتقديم تنازلات سياسية، لكنه أضعف من أن يتم تهديده دون المخاطرة بانهياره".
ويشير التقرير إلى أن هناك مخاطر أكثر كارثية، مثل مواجهة مع تركيا حول إدلب، أو غزو تركي لدفع الأكراد للوراء، أو حتى حرب بين إسرائيل وإيران، لافتا إلى أن هناك عددا كبيرا من الخبراء الروس قلقون حول "انهيار المغامرة مثل بيت من بطاقات اللعب".
وتقول المجلة: "باختصار، فإن القوة التي يحاول بوتين عكسها في الخارج لتحسين وضعه في بلده هي محاولة هشة، والعالم متعدد الأقطاب الذي حاول أن يوجده قد يترك روسيا في الهامش، فلا عند روسيا القوة العسكرية الموجودة عند أمريكا، ولا عندها القوة الاقتصادية التي عند الصين، وقليل في موسكو هم من يريدون أمريكا أن تغادر أفغانستان؛ خشية زعزعة الاستقرار في الجانب الجنوبي من روسيا".
وتختم "إيكونوميست" تقريرها القول: "الآن قد يفرح بوتين بالوطنيين وهم يهتفون (إلى برلين)، لكن الخطر بالنسبة له هو إن بدأوا بالصراخ (أعيدوا أبناءنا إلى البلاد)".