عمره من عمر الكيان اللبناني المولود عام 1920، في ختام الحرب العالمية الأولى، وبعد سنوات المجاعة، بقليل. ذاكرته هي ذاكرة الماروني الشاهد عبر أهله وأساتذته، على الولادة الصعبة للكيان اللبناني، وعلى الدور الريادي فيها الذي لعبته الكنيسة المارونية، من خلال شخص البطريرك إلياس بطرس الحويك. وتجربته معجونة بكل العثرات التي رافقت نمو الكيان اللبناني، وطناً صعباً رجراجاً، ومن داخل بكركي نفسها بعد أن عيّنه البطريرك بولس بطرس المعوشي عام 1956 أمين سر البطريركية. وتكر سبحة الذاكرة، منذ ثورة عام 1958، وصولاً إلى ما بعد هزيمة عام 1967، التي نجح لبنان بحكمة وزير خارجيته فؤاد بطرس أن يبقى خارج سياقها الحربي، ثم «اتفاق الشؤم» في القاهرة عام 1969 الذي أعطى منظمة التحرير الفلسطينية، حرية الكفاح المسلح من لبنان... مروراً باندلاع الحرب الأهلية عام 1975 والاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وسقوط المشروع السياسي الأبرز للمارونية السياسية باغتيال الرئيس بشير الجميل، وصولاً إلى شهادته على الاقتتال المسيحي المسيحي وقد صار بطريركاً عام 1986 ثم الطائف وما بعده من خروج جيش الاحتلال السوري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري...
هو آخر الرجال الذين يعرفون لبنان. آخر الشهود على إمكانات هذا الوطن الصعب، وعقبات استتباب نهائيته. بل هو آخر اللبنانيين. آخر المؤمنين بأنه لا ينتصر في لبنان إلا من ينتصر بلبنان المعنى والرسالة، وطناً نهائياً للعيش الحر الكريم الواحد، خارج موازين حسابات السلطة وتوازنات النظام السياسي.
عندما غطى البطريرك مار نصر الله بطرس صفير اتفاق الطائف، كان يعرف أنه يطوي صفحة من صفحات التجربة السياسية المسيحية في المشرق، وفي لبنان الذي ظل في عقل المسيحيين وبعبارة خلاقة لكريم بقرادوني «وطناً مسيحياً يتسع للآخرين».
كان الزمن يدور دورة كبيرة. في تلك اللحظة المسيحية العصيبة اختار البطريرك لبنان، المقتتلون مسيحيوه حتى آخر الرمق وسراب الدم. اختار أن ينحاز إلى حماية البقية، حماية الذخيرة، ممسكاً بكف لا ترتجف، ما بقي من حنطة لمواسم الغد.
أدرك «بطريرك لبنان» أن الكنيسة وحدها قادرة على استيلاد شبكة حماية تتلقف سقوط المارونية السياسية، وتمنع ارتطام الموارنة القاتل بأرض الواقع السياسي القاسية. بدءاً من القوى التي تحلقت حول بكركي رفضاً لقوى الأمر الواقع المسيحية قبل الطائف، والتي حوّلت وظيفتها إلى معالجة ذيول الهزيمة العسكرية وصولاً لبيان المطارنة الموارنة في سبتمبر (أيلول) عام 2000 بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، والذي شكّل برنامج عمل سياسي لحراك وطني بقي يتنامى حتى 14 مارس (آذار) 2005، وبين اللحظتين مرّت حركة إعادة إنتاج الدور المسيحي والخروج من الهزيمة بمنحنيات ومحطات كثيرة أبرزها معركة الصمود والمواجهة التي انطلقت من رحم توقيف رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، وزيارة البابا يوحنا بولس الثاني للبنان في مايو (أيار) 1997، وما اندلع بغية حصولها من مواجهة قاسية مع حافظ الأسد، ثم لقاء مار روكز الذي للمفارقة كان يدفع باتجاه خيار قبول انسحاب إسرائيل من جزين فيما كانت سوريا الأسد و«حزب الله» يدافعان عن بقاء الاحتلال! ولا يفوت المراقب العصب الذي شكّلته الجامعات، وتحديداً الجامعة اليسوعية التي كانت خطابات رئيسها الأب سليم عبو، ولا تزال، النصوص المرجعية الأولى حول السيادة اللبنانية. وبين هذه المحطات جميعاً، مصالحة الجبل التي أقفلت الجراح المُرة بين المسيحيين والدروز.
طوال هذه السيرة، وفي ذروة تدجين الإعلام والخطاب السياسي، إلا في بعض بؤر جريدة «النهار» وملحقها الثقافي ومقالات الراحلين غسان وجبران تويني وسمير قصير، تحولت عظة الأحد إلى أهم نص سياسي، في الحياة الوطنية اللبنانية منذ عام 1993 حتى الانسحاب السوري عام 2005.
حمى صفير لبنان ومعناه حين حمى مسيحييه، مشرفاً على إعادة تنظيم انتشارهم في الحياة الوطنية والسياسية، على قاعدتي الدولة والسيادة معاً. لم يغطِّ البطريرك مَن انتهز عنوان الدولة ليكون شريكاً في نظام الوصاية عن ضعف وتزلف، وهم غالبية الشخصيات المسيحية منذ «الطائف» حتى انتخابات 2005 إلا البعض القليل القليل ونبراسهم الراحل نسيب لحود. ولا كان تسامح قبلاً مع مَن غامر بالدولة دفاعاً عن السيادة، حتى حين كان المغامر عنواناً للمقاومة الحقة في وجه تفلت السلاح الفلسطيني، أو في وجه شهوات حافظ الأسد. العقل العميق للكنيسة المارونية يرفض التمرد على الدولة، أياً تكن صفة الحاكم وأياً كانت مسوغات التمرد. من هنا لم تكن علاقة الكنيسة على وئام مع بشير الجميل، ولا مع القوات اللبنانية في ذروة تمثيلها لخط الدفاع عن الوجود المسيحي، ولا غطى تمرد ميشال عون ولا قَبِل مع انتفاضة الاستقلال إسقاط الرئيس إميل لحود بالقوة. فلا دولة بلا سيادة ولا سيادة بلا دولة في عقل الكنيسة، وأبرز مَن خاض هذا الامتحان هو البطريرك الراحل.
إلى هذين المدماكين، ظل البطريرك بثقله المعنوي والوطني والأخلاقي، حارساً لمرجعيات الوفاق الوطني بين اللبنانيين. تارةً يصطدم بشهوات المسلمين وتارةً بنوستالجيا المسيحيين، حتى صار بحكم التجربة «المحكمة الدستورية الوطنية العليا» والبوصلة التي تشير إلى صحة الاتجاه.
رحلت محكمتنا العليا... رحل آخر اللبنانيين.