مع الأحداث الكثيرة والكلام الكثير اللذين رافقا وأحاطتا سيرة البطريرك نصر الله صفير، بقي جانب منها ملتبساً وغير معروف، هو في علاقته مع حزب الله. ما من إضاءات على تلك العلاقة ولا من وقائع معلومة توضحها. وما زاد التباسها أن الطرفين لم يكن يقرباها، وبقيت طيّ الكتمان. وحتّى بعد وفاته، قيل الكثير حول غياب الخبر عن وسائل الإعلام التابعة للحزب. ولم يُصدر الحزب بياناً ينعي فيه الراحل، بل اكتفى بإرسال وفد للتعزية إلى بكركي. وإرسال الوفد يؤكد وحسب مدى عمق العلاقة بين الحزب والبطريرك بشارة الراعي، كما يؤكد استمرار "العلاقة" بين حزب الله والكنيسة المارونية.
بكركي والضاحية
إن عدم وجود وئام ظاهر بين البطريرك صفير وحزب الله، لا تعود خلفياته إلى الموقف السياسي للرجل ولا لأسباب دينية أو أيديولوجية. صحيح أنه عارض الحزب واستراتيجيته ومشروعه، وعمل على لبنان السيد المستقبل ذي البعد العربي، لكن، وبالنظر إلى رحابة البطريرك الراحل، ذلك ليس كافياً لتفسير أسباب البعد بين بكركي والضاحية. بعد يماثل حال ابتعاده عن دمشق إلى حد سؤاله الشهير (الساخر): "وأين يقع قصر المهاجرين؟". الخلفية الأساسية لهذا الابتعاد أو الإفتراق، تعود إلى التزام جوهري وعميق في عقل البطريرك صفير وروحه، التزام بالفكرة الأصلية نفسها للبنان الكبير منذ ولادته ونشأته، مهما تغيّرت ظروفه. تلك القناعة في فكره لم تتغير حتّى في أعقاب إنهاء الحرب والموافقة على اتفاق الطائف.. ولو على مضض.
يوم وافق صفير على اتفاق الطائف، كان حسب وجهة نظره الاستشرافية والمستقبلية، بأن المناصفة هي خلاص المسيحيين وبها حمايتهم، أي في ثبات الدولة وبنيتها. وهو الذي قال صراحة، إنه يوافق على الطائف على الرغم من إجحافه للمسيحيين، لكنه يوافق على ما يجب أن يتحمّل مسؤوليته الزعماء الموارنة، الذين لم يستطيعوا المحافظة على مكتسباتهم داخل النظام بسبب سياساتهم.
الحريري وتجديد الميثاق
تلك الموافقة على اتفاق الطائف، دلّت على إدراك غائر فيه لمعنى الكيان اللبناني وشروطه واستخلاص جريء للتجارب. بقي إلى لحظة استقالته، على إيمانه بفكرة لبنان الكبير الذي يقوم بجناحيه المسلم والمسيحي. المسلم السنّي والمسيحي الماروني. كان أرفع من نية تهميش أي جماعة أخرى، لكنه كان مخلصاً لفكرة لبنان المنشأ، ومؤمناً به أكثر من عوارض التغيرات والتحولات. فكانت فرصة الطائف ودخول الرئيس رفيق الحريري إلى المشهد، بقوة دعم إقليمية ودولية، سانحة بنظر البطريرك، لإعادة إحياء روحية الميثاق، ولو على ضعف مسيحي. فقد راهن عبر تثبيت نهائية الكيان أن يستعيد المسيحيون حضورهم، وبما يحفظ وجودهم داخل المؤسسات، وليس الاستقواء بالأحلاف من خارجها. وعلى الرغم من موقفه هذا، شكّل منبراً وصدراً رحباً لكل المسحوقين والمهمشين يومها، مسلمين ومسيحيين. فهو الذي بادر إلى فتح الصرح البطريركي لتقبّل التعازي باستشهاد المفتي حسن خالد، وهو الذي كان عرّاب انتفاضة الاستقلال بعض اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وكانت علاقته ممتازة إلى حدّ بعيد مع الرئيس نبيه برّي، ما يؤكد عمق قناعته بثبات لبنان الكبير على صورته الأولى، لحظة ولادته، لا لبنان المتحول، والخاضع لسيطرات قوى إقليمية وعربية، كانت قادرة على صنع الاضطراب والتمزيق بالقوة العسكرية. ومن هذه القناعة، كان الحافز لإعلان موقفه الصلب والعنيد بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، ومطالبته بانسحاب الجيش السوري، مستعجلاً عن حق تحقيق حلم "جلاء جميع الجيوش". وعلى هذا اجتمع سريعاً مع وليد جنبلاط ورفيق الحريري، بالتزامن مع انطلاقة لقاء قرنة شهوان ومصالحة الجبل.
لبنان المتحول
وللإستدلال على عمق علاقة برّي بالبطريرك صفير، لا بد من العودة بالذاكرة إلى زيارة أجراها برّي إلى الصرح البطريركي، في العام 2000. فبعد حصار من قبل النظام السوري على عظات البطريرك ومنع إذاعتها، تقدّم برّي بمبادرة باتجاه الصرح، تنص على إعادة انتشار الجيش السوري، وتحسين ظروف اعتقال سمير جعجع، وتوفير الحماية لوليد جنبلاط بعد مصالحة الجبل. أجهضت مساعي برّي بضغوط من قبل النظام السوري، ما دفع برئيس المجلس يومها إلى الإعتكاف.
إذاّ الخلاف بين صفير وحزب الله ليس طائفياً، بل سياسي، أساسه نظرة الرجل للبنان بعيداً من سيطرة طرف على الأطراف الأخرى. وربما تمثّل هذه النظرة العقيدة التقليدية للموارنة، ما قبل كل التحولات التي أصابت لبنان. وعلى الأرجح، يختلف صفير عن خلفه البطريرك بشارة الراعي في هذه الرؤية تحديداً. وهذا ما يدلّ على تغيير دراماتيكي في التفكير السياسي الماروني، الذي لم يعد يرى لبنان بصورته قبل الحرب. هذا التغيّر في "العقل الماروني" السياسي، هو أحد أسباب استقالة صفير وابتعاده عن المشهد، فقد ظل غير راض عن هذا التحول الذي يرضخ لصياغة مغايرة عن ذاك الـ"لبنان" الذي آمن به. اعتبر صفير بعد انتكاسة "انتفاضة الاستقلال" أن الأمور تذهب باتجاهات سيئة أكثر، ولن يكون قادراً على ضبطها.
الدسائس و"حلف الأقليات" والاستقالة
هنا حدث تدخلّ، حسب المعلومات، من قبل الفاتيكان، لحث البطريرك الصفير على الاستقالة. فوفق بعض المعلومات، اضطر صفير لتقديم استقالته، بعد الكثير من الدسائس التي تعرّض لها، منذ أيام الوصاية إلى ما بعدها، والتي اشتدت بعد أحداث الربيع العربي. ومن بين هذه الدسائس مثلاً، توقيع أكثر من 15 مطراناً تابعاً لبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق على عريضة تطالب بإزاحته، بذريعة تقدّمه بالعمر وعدم قدرته على ممارسة مهامه. فلقيت تلك العريضة تجاوباً لدى بعض مراكز القوى في الفاتيكان. كان الكاردينال ليوناردو ساندري رئيس مجمع الكنائس الشرقية، يميل إلى فكرة "تحالف الأقليات". ويقال إنه كان لديه دور في دفع البطريرك نصر الله صفير إلى تقديم استقالته. والمعروف عن ساندري أنه احد أصحاب مواقع القوة داخل الفاتيكان، فقد كان هناك محاولات عديدة لإقالته لكنها لم تصل إلى أي نتيجة بسبب قوته وتشعب علاقاته.
ترافق ذلك مع إعادة تظهير مشروع "حلف الأقليات"، الذي لم توافق بكركي أيام صفير عليه، لا بل عارضته، في مقابل وجود مناخ كنسي ومسيحي في منطقة الشرق الأوسط ككل، وحتى فاتيكاني، يميل باتجاه هكذا تحالف "يحمي المسيحيين"، على قاعدة التحالف مع إيران مثلاً، بينما صفير كان على الطرف النقيض من هذه الصيغ كلها. وله مواقف عديدة اعتراضية ضد حزب الله وإيران والنظام السوري. لقد كان صفير مؤمناً أن الدولة العادلة والديموقراطية هي التي "تحمي جميع مواطنيها". فلم يكن متلائماً طرحه مع ذاك المناخ الذي طغى يومها وما زال. وكل ما حدث من وقائع وسياسات دفعه إلى الإنفكاء، بسبب عدم الانسجام ما بين رؤيته وما تمارسه بعض الدوائر الكنسية. بالطبع، كان أي قرار على سوية "إزاحة" بطريرك، هو أكبر من لبنان. وليس تفصيلاً في هذا السياق ولا تنعزل عنه تلك الزيارة التي قام بها البطريرك الراعي بعد انتخابه إلى سوريا، وفي عزّ أزمتها.
إلى جانب هذه الرواية، ثمة روايات أخرى حول خلفيات استقالة صفير. بعضهم يحيلها إلى قناعته الشخصية. وكما روى السيد الراحل هاني فحص ذات يوم قائلاً: سألته، هل هناك أسباب خاصة للاستقالة، فضلاً عن الأسباب العامة؟ يقول صفير ممهداً بضحكة مجلجلة ويعقّب بمثلها: "قلنا نذهب وعقلنا معنا أفضل من أن نذهب وهو ناقص". ولعلّ تلك الإجابة تشير إلى استشرافه للجنون الآتي من بعده، على الرغم من أن الإجابة تعبّر عن تقدّمه بالسن، فوجد الأنسب في الاستقالة والراحة. أما رواية ثالثة، فتفيد بأن صفير قرر الاستقالة إنسجاماً مع قناعة ذاتية، وأخرى مرتبطة بالبابا بنيديكتوس السادس عشر، الذي قدّم استقالته أيضاً، لقناعته بوجوبها عند الوصول إلى سنّ متقدمة، لإفساح المجال أمام الآخرين، وفي إطار "ضرورة التجديد". من يعلم؟