ليس صحيحا ان زمن الكبار ولّى. فلكل زمان رجاله. ولكل مرحلة نوع من القيادة. لكن هذا التبسيط لا يعني الا يعطى الرجل حقه الكبير ككبير من بلادي، بل في العالم، اذ ان الخامة التي تمتع بها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير باتت قليلة. بل لنقل عملة نادرة. فقد عاش في هذا العالم وهو ليس منه. عاش ازمنة الحروب والوصايات والاحتلالات، العسكرية والسياسية والمالية، ولم يلوث عباءته. شاهد مباهج الدنيا ولم تبهجه. عاش وحيدا في عالمه، برفقة المصلوب، يناجيه، ينظر الى فقره وتواضعه ويتمثل بهما. عاش آلام الفادي بصمت، تعرض لأبشع انواع الاعتداءات والاهانات ممن يدعون حماية المسيحيين ويزايدون على بعضهم البعض، ولم يأبه، ولم يحقد. وسموه بالحقد، وهو كان غاضبا فقط. الغضب حق، بل واجب، كغضب المسيح في الهيكل. “الويل لكم…”.
اليوم يغادرنا هذا الكبير، بعد كبار في مجالات مختلفة. كل ترك بصمة في الحقل الذي ابدع فيه، او ربما في اكثر من شأن. مثل غسان تويني الذي ابدع وانجز في غير حقل ومكان. من الصحافة الى الديبلوماسية، والسياسة، والفنون والاآثار، والكتابة والنشر بلغات العالم… او مثل الرئيس فؤاد شهاب الذي حصن الدولة اللبنانية الفتية بمؤسسات تصون استمرارها وتقدمها، من بعد رجالات الاستقلال ومنهم الرئيس بشارة الخوري، والرئيس رياض الصلح، واسماء كثيرة لمعت في مجالات عدة وتركت لها بصمة لا تزول بزوال الجسد الفاني.
الموت حق، ولا يمكن التصدي له، او رفضه. لكن الخسارة التي تصيبنا بالموت تجعلنا يتامى في زمن قل فيه الرجال الرجال. ومن بقي فضل الظل والخفاء، لئلا يتهم بالتلوث الذي اصاب معظم الطبقة السياسية، والاكاديمية، والقضائية، وحتى الدينية.
لا اجرؤ على القول ان زمن الكبار ولى، لان التاريخ يصنعه ابناؤه بقرار شجاع، قرار غير مستحيل، قرار ممكن في كل حين. شرط ان يجرؤ اصحابه عليه، ويتعالوا على الحضيض الذي يشدهم يوما بعد آخر، ويسقطون في فخاخه.
البطريرك صفير يترك فراغا كبيرا، وهو فراغ معنوي، لانه لم يكن في السلطة منذ اعوام، ولم يكن يشارك في القرار. لكننا رغم كل هذا نشعر بخسارة كبيرة وبيتم وطني ومسيحي، عسى ان يملأه بالقدر الكافي من يتابعون المسير. الفراغ المعنوي كبير ويحتاج ملؤه الى جهد كبير، وارادة وطنية، وايمان عميق، وفكر راجح. يحتاج الى صلابة الصخر، وتشبث الارز، ونقاء الثلج، وهي امور قلما تتوافر مجتمعة في كل حين.