ليت القدر أمهله عاماً إضافياً واحداً فقط. ليته عاش ليشهد إحتفالات مرور مئة عام على إعلان دولة لبنان الكبير. فمن دونه يفقد ذلك التاريخ بعضاً مما تبقى من قيمته، وبغيابه تصبح الذكرى مفتعلة، مزيفة، بلا معنى.
خسارة كبرى أن يرحل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وخسارة أكبر ألا يسمع أو يقرأ اللبنانيون تقييمه لذلك "المشروع السياسي"، الذي ولد في العام 1920، بالتوافق بين سلفه البطريرك إلياس الحويك، وبين المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو.. والذي لا يزال "مشروعاً" في طور التشكل والبناء من دون أن يفقد مشروعيته ووظيفته.
لا يعرف ما اذا كانت لجنة تنظيم الاحتفال بالمناسبة قد سجلت رأي الراحل، أو دونته في وثيقة ما ستصدر في الاول من أيلول العام المقبل. لكن المؤكد أن ذلك الشاهد البارز الذي غدره الزمن قبل أن يكمل القرن، لم يكن ليعترف علناً بالأخطاء التي إرتكبت في الولادة، وكان سيخفيها بالحديث عن التعايش والشراكة الاسلامية المسيحية، لكنه كان سيقف عند الانجازات والاخفاقات التي شهدها ذلك المشروع اللبناني، من دون أن يغفل نسبتها، ولو تلميحاً، الى "الطائفة المؤسسة" للكيان.
الرحيل صعبٌ الآن بالذات، ولهذا السبب بالتحديد. كأن البطريرك صفير شاء أن يغادر قبل أن يفتح الجدل العسير، الذي، للمفارقة، يتصدره مسلمون ويتجنبه مسيحيون، حول مشروع كان وسيظل يبدو ناجحاً، بل خارقاً، فقط إذا ما قورن بالمشاريع المشرقية الاخرى البائسة التي تحيط به، والتي تكافح ، منذ التأسيس، من أجل الحفاظ على حدودها المتنازع عليها. فقد ثبت بما لايدع مجالا للشك أن الحدود الدولية لدولة لبنان الكبير، صمدت أكثر من غيرها من الحدود التي رسمت بعدها وما زالت محل نزاع وتفاوض حتى اليوم.
ذلك هو الإنجاز الاكبر، وربما الاوحد، للمشروع الذي غادره البطريرك صفير متفادياً الرد على السؤال عما إذا آن الأوان لإسدال الستار عليه، بعدما تراجع "مؤسسوه" من مرتبة الغالبية المهيمنة بالعدد والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، الى مرتبة الاقلية المثيرة للشك في ولائها للفكرة اللبنانية برمتها، وفي قوتها المبنية على مزاعم وأحلاف تناقض جوهر تلك الفكرة ووظيفتها الاصلية.
كان من المثير فعلا ان يكون صفير موجوداً في المناسبة، ولو في الصفوف الخلفية، خصوصا وأنه "البطريرك السياسي الاخير"، الذي أزاحه الفاتيكان من موقعه، لكي يحفظ "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ولكي يلزم الكنيسة المارونية باقفال بواباتها على السياسة اللبنانية المتفجرة، للمرة الاولى منذ العام 1920..بعدما تبين أن أدوارها قد إنتهت، أو ربما صارت عبئاً على الطائفة، ومعضلة في الوطن، لا سيما بسبب غيرة بقية الطوائف التي فتحت أماكن عبادتها وجعلتها مقرات سياسية، بل حتى مراكز عسكرية،وقدمت رجال الدين، الاسلامي خاصة، في صورة المقاتلين المدججين بالسلاح، الذين يصادرون السياسة والعسكر ويختزلونهما معاً.
كان يمكن أن يتردد الراحل في الاقرار بأن حال الكنيسة والطائفة والرئاسة ليست على ما يرام. فما أُخذ بمرور الزمن وبحكم القدر لا يسترد بسهولة، لكنه كان يعتقد أنه يمكن ان يتولى الموارنة تحديداً تجديد المشروع الذي ورثه المسلمون وعاثوا فيه فساداً، وهم اليوم في طريقهم الى الاحتفال بمئويته الاولى، من دون أن يرف لهم جفن، ومن دون أن يكون لديهم عزم على وقف الخراب العميم. أما النصر الذي يدعي بعض الموارنة تحقيقه اليوم، سواء بالرئيس القوي أو بالدور المستعاد، فليس له صلة بالواقع، وبالتالي ليس له مستقبل. وتوزيع الادوار المفترض بين المسلمين الذين يواجهون الخطر الآتي من وراء الحدود الجنوبية، وبين المسيحيين الذي يواجهون التهديد الآتي من وراء الحدود الشرقية، لم يعد له أثر.
برحيل صفير تفقد المئوية الاولى بعض الإثارة، ويخسر المشروع بعض الزخم، ولا يبقى سوى الفكرة اللبنانية الفذة.. التي لن يكون هناك بطريرك ماروني قادر على تطويرها.