تشير الحركة الساخنة في بحار وأجواء وممرات الشرق الأوسط، مع حاملات طائرات تمخر البحار، واستقدام منظومات صاروخية ومنظومات دفاع جوي، ومع تهديدات متبادلة بين الولايات المتحدة وإيران، وخاصة في ظل الحديث عن طرح ترتيبات جديدة، سياسية وأمنية واقتصادية، سواء سميت “صفقة العصر”، أو أي اسم آخر، إلى أنه ثمة ما يرجّح أننا إزاء تاريخ جديد لتلك المنطقة يختلف عما عرفناه أو عايشناه في النصف الثاني من القرن الذي مضى.
على ذلك يبدو مفيدا إدراك العديد من الحقائق المتعلقة بهذا الأمر، وضمنها، أولا أن القوى التي تشتغل على إحداث هذا التغيير، أي الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران وتركيا، غير متجانسة، أو مختلفة، ويشتغل كل واحد منها على إزاحة أو تهميش الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى.
ثانيا أن كل واحد من الأطراف المذكورين يلعب دوره، حسب حجمه وقدراته، سواء المبطنة أو الظاهرة، الناعمة أو الخشنة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مع تأكيد أن الولايات المتحدة هي اللاعب الأساس، أو اللاعب الذي يمتلك معظم خيوط اللعبة، من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، فهي بمثابة موزّع التناقضات (حسب تعبير للمفكر والسياسي الأميركي زبغنيو بريجينسكي في كتابه الشهير “بين عصرين”)، وتاليا لذلك فهي بحكم قوتها وإمكانياتها بمثابة موزّع العوائد، أيضا، بين الأطراف المتصارعة أو المتنافسة في تلك المنطقة.
ثالثا، أن كل ما يجري من ترتيبات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية في تلك المنطقة يتم على أساس استبعاد أو تهميش النظام العربي، بوصفه يتشكّل من منظومة واحدة تقوم على التكامل والتعاضد، مقابل التعامل مع كل طرف فيه على حدة.
رابعا، واضح مما يجري أن ثمة إعادة تموضع، أو إعادة ترتيب لنفوذ الأطراف الفاعلين، سواء الدوليين أو الإقليميين، على حساب حقوق العرب ومصالحهم، العملية أو الإستراتيجية، الآنية أو المستقبلية.
خامسا من الواضح انطلاقا من كل التسريبات التي تجري أن إيران ستكون طرفا خاسرا، إذ لن يُسمحَ لها باستثمار وجودها في بلدان المشرق العربي، ولا الجهود والطاقات الكبيرة التي بذلتها لتعزيز مكانتها، وأن إسرائيل ربما تكون هي الرابح الأساسي، إلى جانب كل من الولايات المتحدة وروسيا (مع الفارق بين الاثنين لصالح الأولى)، فيما أن تركيا تتحصل على نوع من الترضية، بحيث يتم استيعابها أو تكييفها.
من كل ذلك يمكن استنتاج أن ما تم ذكره لا يعني أن الظروف أضحت مهيأة لتمرير الترتيبات المفترضة في الشرق الأوسط، وضمنها ما يسمى خطة “صفقة القرن”، إذ مازال ثمة شوط طويل ينبغي قطعه، إن لاستنزاف الأطراف التي تناكف الولايات المتحدة، وإرهاقها، أو إزاحتها، بالطرق الخشنة أو بالطرق الناعمة.
على ضوء ذلك يمكن لفت الانتباه إلى أنه ثمة ثلاث عقد أساسية تقف كعائق في وجه أي ترتيبات جديدة في المنطقة، أولها، إيران التي تجد نفسها في واقع صعب، لا تستطيع عبره حصد عوائد إقليمية من امتداداتها في هذا البلد أو ذاك، فهي تقف في اليمن في مواجهة السعودية وباقي دول الخليج، وفي العراق تقف في مواجهة الولايات المتحدة وقطاع مهم من الأكراد، وحتى تركيا، وفي سوريا ثمة روسيا وتركيا والولايات المتحدة؛ في حين أن وضع لبنان غير مستقر وهو رهن بالتطورات الإقليمية القادمة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن مشكلاتها تزداد تفاقما بسبب تكاليف السياسة الخارجية لإيران، التي تمول الميليشيات، وتدعمها بالأسلحة، أو بحكم الصرف على البرنامج النووي، أو بسبب العقوبات الدولية التي باتت تواجهها جراء تلك السياسات، وضمن ذلك تراجع أسعار النفط.
لذا فكل هذه الأوضاع الصعبة لإيران مرهونة بكيفية تصرف قادتها، إزاء ترتيبات الفاعلين الآخرين، إذ لكل حادث حديث، فهل تكون ردة فعلهم على الترتيبات الجارية عنيفة أم سلمية؟ هل تكون في اتجاه التكيف أم في إطار الصراع؟ هل سيفضلون العودة إلى داخل الحدود من أجل سلامة نظامهم، أم سيحاولون لخبطة الأوراق للحفاظ على نفوذهم الإقليمي؟ والفكرة هنا أن إيران أضحت في مواجهة لحظة الحقيقة، وعلى ما تفعله أو ما لا تفعله يتوقف الكثير، علما أن الموقف من إيران، أي تحجيمها أو إزاحتها من المنطقة، بات في صلب خطة “الشرق الأوسط” الجديد، من وجهة النظر الأميركية خاصة.
العقدة الثانية تتعلق بالموقف العربي من إسرائيل، وموقف إسرائيل من الاستحقاقات المطلوبة منها، فهل يمكن للولايات المتحدة أن تمرر مشروعها لتغيير مبنى ومعنى قضية فلسطين، بتصفية قضايا القدس وحق العودة وإقامة الدولة المستقلة؟ هل يمكن لهذا الموضوع أن ينجح، من دون حل مناسب وعادل يرضي الفلسطينيين، على الرغم من ضعف العالم العربي وتضارب مصالح أطرافه؟ أو هل يمكن للولايات المتحدة أن تضغط على إسرائيل لتقديم مخارج مناسبة للأطراف العربية المعنية، لتغطية تكيفهم مع الترتيبات الجديدة، أم أن التعنت الإسرائيلي سيستمر ويؤدي إلى انهيار الترتيبات المفترضة، على نحو ما حصل بانهيار المفاوضات متعددة الطرف وانهيار مشروع الشرق أوسط الجديد (منتصف التسعينات)، بسبب تملص إسرائيل من اتفاق أوسلو، ومن عملية التسوية مع الفلسطينيين.
العقدة الثالثة، تتعلق بالتفاهمات الأميركية-الروسية، وهي تفاهمات قائمة وحقيقية، بدليل ما حصل ويحصل في سوريا (من الجنوب إلى الوسط والشمال في إدلب اليوم)، وبدليل القبول الأميركي باعتبار سوريا منطقة نفوذ لروسيا من دون إيران، ومع ذلك فهل ستنجح الولايات المتحدة في إحداث تغييرات سياسية في سوريا، بالتعاون مع روسيا، في مقابل حلحلة الملفات العالقة بينها وبين روسيا في ملفات أوكرانيا وأسعار النفط والدرع الصاروخية والعقوبات التكنولوجية؟ هل ثمة قرار أميركي باستعادة الاستقرار السياسي والأمني إلى سوريا؟
قصارى القول، كل المنطقة في اضطراب، كل شيء في مهبّ الريح، لذا لا يمكن التكهن في أي مسار ستذهب حاملات الطائرات ومنظومات الصواريخ والمشاريع المستقبلية وسياسات الدول، في هذا العالم المضطرب.