ميزة التيار الوطني الحرّ، وخصوصاً الوزير جبران باسيل، أنه "يعرف من أين تؤكل الكتف". وأهمّ ما في باسيل، هو معرفة مكامن القوة والضعف لدى خصومه أو حلفائه في آن. يحدّد تلك النقاط والمكامن، يرسم لها "ماكيت" في رأسه، ويعمل على أساسه. وأكثر ما يجيده باسيل في ديناميكيته، هو أنه قادر على الاهتمام بأكثر من جبهة، وإشغال خصومه أو حلفائه الذين يريد منهم مكسباً، بجملة مشاريع أو قضايا، فيشتت قواهم، مقابل تقديمه لبيادقه على رقعة الشطرنج. هو قادر على افتعال إشكال حول خطّة الكهرباء، مقابل تمريرها، ووسط انشغال الجميع بها، يفجّر قنبلة من نوع آخر، فيضيع تركيز الخصوم الذين يكثفون الجهد على الملف الأساسي المطروح.
"قوى الأمن الداخلي" و"أمن الدولة"
اليوم، ينشغل لبنان واللبنانيون بالموازنة والملفات المالية والاقتصادية. استبق باسيل الكلام حول الأزمات الاقتصادية وألزم الجميع بإقرار خطّة الكهرباء لتخفيض العجز. واستبق جلسات الموازنة والبحث فيها عبر إشارته إلى أنه يجب اتخاذ إجراءات قاسية قد تطال رواتب بعض الموظفين في قطاعات مختلفة. فانفجرت القضية بوجه الحكومة لا بوجه باسيل الذي حيّد نفسه. ودخلت البلاد في سجال لا ينتهي حول الموازنة وتأمين الوفر بموجب التقشف. وبينما ينشغل اللبنانيون بهذه القضايا المالية، يستمرّ رئيس التيار الوطني الحرّ بتحريك بيادقه، في الأمن، والسياسة، والإدارة، والقضايا ذات المدى الأبعد في ما يخص تحالفه مع حزب الله، والسياسة الخارجية للبنان.
قبل أيام، انتقد باسيل بشكل مباشر مدير عام قوى الأمن الداخلي، وبعدها بيومين، يعمل على تعزيز دور جهاز أمن الدولة، مع إدخاله إلى وزارة الخارجية وإيلائه التحقيق بتسريب محاضر ديبلوماسية. وعلى ما يبدو، فإن هذه الخطوة الذي حصلت من دون أي شجب أو استنكار أو اعتراض من قبل أي طرف، فالجميع منشغل بالموازنة، ستكون مقدّمة لتحركات مماثلة للجهاز في وزارات وإدارات أخرى. يحدث ذلك، مقابل شنّ حملات على قوى الأمن الداخلي ومديرها العام، وصولاً إلى حدّ تهميش دورها.
غيظ الحريري المكتوم
ووسط هذه الهجمات، يجد كل من يلتقي الرئيس سعد الحريري في حالة من الامتعاض غير المعلن مما يحققه باسيل، خصوصاً أن الأخير يثبت قدرته على تحقيق ما يريد، على الرغم من تكتل قوى عديدة ضده. يعلم الحريري أنه لن يكون قادراً على مواجهة باسيل لأكثر من سبب. أولاً، مقتضيات التحالف الذي يرتبط به معه. ثانياً، وبالنظر إلى الحسابات البعيدة المدى مع باسيل، يظن الحريري أنه قد يخسرالكثير إن هو توقّف عند كل التفاصيل التي يثيرها وزير الخارجية، أو اعترض على ما يبتغي باسيل تحقيقه. لذا، يضطر رئيس الحكومة إلى كتم غيظه، ومسايرة رياح "التيار" ورئيسه، الذي لا يفوّت أي فرصة لتسجيل هدف بمرمى الخصوم والحلفاء في آن واحد.
امتعاض الحريري يبدو جلياً بالنسبة لبعض المحيطين به، ولكنهم يسيرون على قاعدة ما باليد حيلة، ووفق مبدأ السير بجوار الجدار و"يا رب السترة". لكن التململ يتوسع في محيط الحريري، ليس على مستوى النواب ومحترفي الشأن السياسي من فريقه، بل أيضاً في قيادة قوى الأمن الداخلي مثلاً، وبعض القضاة السنّة المحسوبين على تيار المستقبل، والذين يجدون أنفسهم مجرّدين من أي مظلة داعمة، أو مساندة، لمواجهة كل ما يتعرضون له من ضغوط ومحاولات تهميش. خصوصاً وللأسف، أن ثمة أحاديث يجري التداول بها بين هؤلاء تعيد إحياء نزعة التمييز الطائفي، إذ يجد السنّة في هذه المواقع أنفسهم أيتاماً أو مشردين، وعرضة لما يرسمه لهم الآخرون، مقابل عدم القدرة على الاقتراب من "الشيعة" وتطويع المسيحيين، ما يعني تعزيز المحسوبين على التيار وتهميش المعارضين.
الموازنة ومسلسل التنازلات
من فاتح الحريري بهذا الامتعاض وأشار إليه بعلامات التطويق والتهميش، لقي جواباً ليس بعيداً عن الكلام المعتاد. إذ أن رؤية الحريري تتركز على أن لا مبرر لهذا التململ، والهمّ الأساسي يبقى حماية الاقتصاد والليرة وإنجاز الموازنة. وبعدها، يتم التفرغ للقضايا الأخرى. في المقابل، يعرف خصوم الحريري أن الرجل غير مشغول إلا بمسألة الموازنة، ولتمريرها هو مستعد للتنازل عن أي شيء، ولا يحبذ الخوض في مواجهات بملفات أخرى، ما يشجع الخصوم تحديداً على التقدّم أكثر في ساحته وقضمها.
حاول الحريري الانتفاض صامتاً لتمرير الموازنة، فجاء تحرّك موظفي مصرف لبنان، مرافقاً لحركة واسعة قام بها الحاكم رياض سلامة، لمواجهة تحركات العسكريين المتقاعدين. هكذا، تكرّس منطق الساحة مقابل ساحة، إلى أن دخل رئيس الجمهورية على الخطّ، طالباً عقد اجتماع مع رئيسي الحكومة ومجلس النواب، وإصدار تعاميمه بوجوب سحب التوتر في الشارع. وإذا ما نجح الحريري في إحدى خطوات دفاعه، فسيجد نفسه مستقبلاً مقدماً على المزيد من التنازلات في مجالات أخرى. خصوصاً أن حديث رئيس الجمهورية، وبعده وزير الخارجية، عن ضرورة وضع خطة اقتصادية جديدة للبلاد، وتغيير المنظومة الاقتصادية برمتها، وهيكليتها، لا يطال غير الحريري ومنطقه الاقتصادي. والدليل الأبرز على ذلك، هو كلام باسيل قبل أيام بأن المشكلة الاقتصادية في لبنان هي بسبب "ارتهان البعض للخارج".
تزامناً جاءت حركة جهاز أمن الدولة في وزارة الخارجية، والتي ستتوسع ضمن لعبة صلاحيات الأجهزة الأمنية لتطال وزارات أخرى، تحت عنوان إيلاء هذا الجهاز مهمة التحقيق بملفات الفساد، والتي ربما قد تكون سيفاً مسلطاً على المحسوبين على الحريري، ما يدفعه أيضاً إلى تقديم المزيد من التنازلات.
طموح الرئاسة
ووسط كل هذه الضوضاء المحلية، يبدو باسيل ناظراً بعين خارجية إلى هدف يسعى إلى تحقيقه. يجد نفسه سائراً بخطى حثيثة نحوه. هدية حزب الله والغزل المفرط به، يضعانه بمسافة متقدّمة جداً على طريق القصر الجمهوري، ويعمل على مراكمة النقاط بشخصه وجهده لا بالإتكال على "نسبه" بسيد بعبدا اليوم. فيوازن المواقف التي يتخذها داخلياً وخارجياً، على نحو لا تتعارض جوهرياً أو استراتيجياً مع طرف من الاطراف المتناقضة أو المختلفة. همّه فقط، هو الوصول إلى لحظة تلاقي المصالح الإيرانية الأميركية، بعد كل هذه الضغوط والمقتربة من شفير الانفجار. لكنه متيقن أن كل هذا التصعيد والاستنفار، سيقود لا بد إلى المفاوضات، ولا بد من وصولها إلى تفاهم أو اتفاق. حينها ستظهر قوته كحليف لحزب الله وكصديق للغرب، ما يوصله مباشرة إلى رئاسة الجمهورية.
ويبدو أنه يراها أقرب من أي وقت مضى.