يصعب العثور على منطق للتصعيد الذي يشهده قطاع غزّة، وهو تصعيد بدأ بإطلاق صواريخ من القطاع في اتجاه الأراضي الإسرائيلية. يمكن أن يكون التفسير المفترض لهذا التصعيد الذي شهد غارات إسرائيلية على مواقع مدنية في القطاع السعي إلى خدمة بنيامين نتنياهو في وقت يشكّل فيه حكومة جديدة. يظهر أن التصعيد أدّى الهدف المطلوب. خرج نتنياهو قويّا من المواجهة، فيما بعثت إيران بالرسالة التي تريد أن تبعث بها.
بكلام أوضح، هناك تفسير آخر للمأساة الجديدة التي شهدتها غزة. تكشف ذلك الرغبة الإيرانية في استخدام القطاع وأهله، في هذا الوقت بالذات من أجل أن تقول طهران إنّها موجودة في غزّة وإنّ لديها ورقة فلسطينية تستطيع استخدامها في اليوم نفسه الذي فرضت فيه إدارة دونالد ترامب مزيدا من العقوبات عليها. شملت الدفعة الجديدة من العقوبات وضع حدّ للاستثناءات أو الإعفاءات الأميركية التي كانت تسمح لثماني دول بينها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية باستيراد النفط الإيراني.
يبدو أن إيران مستعدة في هذه المرحلة لاستخدام إحدى أوراقها كي تقول لإدارة ترامب إنّ هناك ما تردّ به على العقوبات الجديدة التي تستهدف منعها من تصدير نفطها إلى زبائنها التقليديين. غزّة وأهلها جزء من هذا الردّ الذي يتضمن كشف “حركة الجهاد الإسلامي”، التي تسيطر على جزء من القرار الغزّاوي، أنّ لديها أنواعا جديدة من الصواريخ.
الأكيد أن إيران عاجزة الآن عن فتح جبهة الجولان أو جنوب لبنان. لذلك تبدو غزّة بدلا من ضائع بالنسبة إليها، من دون أن يعني ذلك إلغاء احتمال اللجوء إلى التصعيد مع الأميركيين في العراق أو أماكن أخرى في مرحلة لاحقة. ليس خروج أبوبكر البغدادي، زعيم “داعش” من جحره أخيرا وحملته على المملكة العربية السعودية سوى جزء من الحملة المضادة التي تشنّها إيران على الإدارة الأميركية.
تستهدف هذه الحملة التأكيد للأميركيين أن إيران ليست لقمة سائغة، وأن النظام فيها يمتلك أوراقا كثيرة ليست محصورة بسوريا ولبنان حيث هناك دور روسي يفرض على “بيبي” نتنياهو التزام شروط معيّنة مرتبطة بالعلاقة العميقة التي تربطه بالرئيس فلاديمير بوتين. لدى روسيا مصالحها في سوريا. ليس أمام إسرائيل سوى مراعاة هذه المصالح.
ما ينطبق على إسرائيل، ينطبق على إيران التي لا تبدو مستعدة في هذه الأيّام للدخول في مواجهة مباشرة مع الروسي في سوريا على الرغم من وجود منافسة شديدة بين موسكو وطهران على الإمساك بالقرار السوري.
تسيطر “حماس” على غزّة سيطرة كاملة منذ منتصف العام 2007. يتبيّن أكثر فأكثر أن لدى إيران جذورا في غزّة. لا تزال أجنحة في “حماس” تدين بالولاء لإيران. هناك أيضا “حركة الجهاد الإسلامي” التي ليست سوى أداة إيرانية مثلها مثل “حزب الله” في لبنان أو “عصائب أهل الحق” في العراق.
يمكن فهم سبب وجود هذه الجذور في ضوء العلاقة القويّة والقديمة القائمة بين الإخوان المسلمين من جهة، وإيران من جهة أخرى. هذه العلاقة جعلت “حماس” في خدمة إيران وسياستها في كلّ وقت، وجعلت “حركة الجهاد الإسلامي”، المرتبطة مباشرة بالقرار الإيراني، تجد لنفسها موقعا ثابتا في غزّة.
أين الشعب الفلسطيني وسط كلّ هذه المعمعة التي جعلت من الحرب الأخيرة في غزّة حلقة في سلسلة من المآسي التي لا يبدو أن هناك نهاية قريبة لها على الرغم من كلّ الجهود المصرية لإعادة “حماس” إلى جادة الصواب؟
من الواضح أنّ الشعب الفلسطيني في غزّة الضحيّة الأولى لـ”حماس” وفكرها التخريبي الذي أوصل القطاع إلى ما وصل إليه بعدما كان في مرحلة معيّنة أرضا واعدة بالخير لأهلها على الرغم من ضيق هذه الأرض. حققت “حماس” كلّ المطلوب منها إسرائيليا.
تكفي عودة إلى الماضي القريب للتأكد من ذلك بعيدا عن الأوهام والشعارات البائسة والمبتذلة من نوع “المقاومة” و”الممانعة”. يكفي التذكير بمطار غزّة الذي افتتحه ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني في تشرين الثاني – نوفمبر 1998 بحضور الرئيس بيل كلينتون. يعطي التذكير بالمطار، الذي ما لبثت إسرائيل أن دمّرته في السنة 2001، فكرة عن الفرص الفلسطينية الضائعة التي كان يمكن أن تكون غزّة منطلقا لها. من يتذكّر أيضا كيف كان الانتقال سهلا بين غزّة ومصر بوجود معبر يشرف عليه مراقبون أوروبيون؟
لكن الفرصة الضائعة الأكبر تظل تلك التي برزت صيف العام 2005 عندما اتخذ أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك، قرارا بالانسحاب الكامل من كلّ القطاع. شمل الانسحاب المستوطنات التي أقيمت في غزّة. كانت تلك لحظة الحقيقة. كانت تلك لحظة سقوط “حماس”، كما كانت لحظة سقوط القيادة الفلسطينية التي على رأسها محمود عبّاس (أبومازن). لم تستطع القيادة استيعاب أمرين.
الأمر الأوّل أن “حماس” تستغلّ فوضى السلاح التي عملت من أجلها كي تصل إلى فصل القطاع عن الضفّة الغربية. لم يكن من هدف لـ”حماس” في تلك المرحلة سوى إنشاء إمارة إسلامية في غزّة.
أمّا الأمر الثاني الذي لم تستطع القيادة الفلسطينية استيعابه، فهو أنّ المطلوب في تلك المرحلة كان إفشال الهدف الإسرائيلي من الانسحاب من غزّة. كان هذا الهدف واضحا كلّ الوضوح وعبّر عنه دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون في حديث إلى صحيفة “هآرتس”. قال فايسغلاس إن الهدف من الانسحاب من غزّة الإمساك بطريقة أفضل بالقدس وبقسم من الضفّة الغربية حيث المستوطنات التي ترفض إسرائيل التخلّي عنها.
تجاهلت السلطة الوطنية الفلسطينية المقيمة في رام الله معنى الانسحاب الإسرائيلي وكيفية استغلال الفرصة لإقامة نموذج لدولة فلسطينية مسالمة تعرف كيف التعاطي مع محيطها، بمجرّد انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967. انسحبت إسرائيل من غزّة وترفض أي انسحاب من الضفّة الغربية متذرّعة بشعارات معيّنة. من بين هذه الشعارات الصواريخ التي تطلقها “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وهي تظلّ من النوع المضحك المبكي، حتّى لو أدخلت إيران أنواعا جديدة منها إلى القطاع.
في السنة 2019، لا تزال غزّة، بوضعها الراهن، تخدم المشروع الإسرائيلي. لا تزال سجنا كبيرا في الهواء الطلق. استطاعت إيران تحويل القطاع إلى ورقة من أوراقها على حساب الشعب الفلسطيني الذي تمرّ قضيته في هذه الأيّام بظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها في غاية الصعوبة والتعقيد…
في غياب القيادة القادرة على فهم ما يدور في المنطقة والعالم، بما في ذلك أن القضيّة الفلسطينية لم تعد القضيّة المركزية للعرب. هل هناك عرب لتكون لديهم قضيّة مركزيّة أولا بعد سقوط بغداد والبصرة والموصل وحلب ودمشق وبيروت… وبعد ظهور ذلك الخطر الإيراني الذي يهدّد تماسك كلّ مجتمع عربي ونسيجه؟