تسعى القوى السياسية في العراق من أحزاب وكتل نيابية وزعماء ميليشيات لإطلاق حزمة من الوعود للإصلاح أو الإعمار أو لمكافحة الفساد مع اقتراب فصل الصيف المثير للقلق بعد تجربة الاحتجاجات الشعبية، في البصرة تحديداً، التي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا والجرحى وازدياد النقمة على المافيات التابعة لولاية الفقيه لسيطرتها على الاقتصاد وموارد المدينة العريقة بتاريخها وثرواتها.
مضت سنة على الانتخابات البرلمانية وأكثر من نصفها على تشكيل حكومة عادل عبدالمهدي دون الاتفاق على تسمية أربعة من الوزراء لمناصب الداخلية والدفاع والتربية والعدل. ذكرى استهلاك السنة الأولى من الدورة الانتخابية الجديدة يبدو أنها نبهت “كتلة سائرون” لتوقع حدوث تغييرات واضحة في الخارطة السياسية في تحسب لارتفاع درجات حرارة المناخ مع ارتهان الكهرباء لمساومات دولية هي الأخرى في أقصى درجات توترها.
الحكومة أبرمت عدداً من العقود مع شركات فاعلة في قطاع الطاقة، بما يشير إلى الهدر في الأموال المخصصة لهذا القطاع طيلة سنوات حكومات الاحتلال، تداركاً منها لمسؤولياتها بوضع جدول زمني لإبراء ذمتها من التقصير.
أحد زعماء الميليشيات، وضمن ذات الموجة، أعلن عن ملاحقة أداء عدد من الوزراء لفسادهم وعن قرب تغييرهم بآخرين في مداخلة سياسية تبتعد كثيراً عن طروحات الكتل والتحالفات في ترك حرية اختيار تعيين الوزراء لرئيس مجلس الوزراء الذي رشح بالتوافقات، لكن الوقائع في النهاية ذهبت خلافاً لما روّجَ له من رغبة في تجاوز المحاصصة السياسية والطائفية عملاً بمبدأ التغيير وأبوة الدولة الراعية لأبنائها تحت سقف الفضاء الوطني.
نظام المحاصصة باق في المناصب العليا، وتمدد إلى المناصب الدنيا بتقاسم طائفي وقومي وسياسي ولو من خلف ستار لعبة دولية أقرت أحكامها الانتخابات بما أفرزته من مقاعد برلمانية للميليشيات الموالية لنظام طهران، حتى تحوّل مجلس النواب إلى مجموعة تقاطعات وفرق تتقاذف كرة الإرادات والتبليغات على طريقة الحروب بالوكالة أو الإنابة رغم أن اللاعب الأساسي لا يختفي ولا يتبرأ من سطوته، لأن ذلك بعض من تصريف الغضب والاحتقان في الداخل الإيراني، وجزء من لغة التهديد والتشنج التي طبعت تصرفات القيادة الإيرانية من المرشد علي خامنئي وقادة حرسه الثوري، إلى ما يقوله الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف اللذين تخليا تحت ضغط العقوبات عن دبلوماسيتهما المقررة.
رئيس وزراء العراق السابق حيدر العبادي تحدث عن إعادة النظر في ترشيحه مجدداً لرئاسة مجلس الوزراء إذا طُلب منه ذلك، أي إعادة النظر بتكملة المدة المتبقية من عهدة عادل عبدالمهدي.
صورة الكرسي الهزاز لمنصب رئاسة الوزراء تداعب مخيلة الكتل السياسية وأحزابها وتعطي الانطباع باحتمالية التقلبات في الشأن السياسي وارتباكه، بما لا يدع مجالاً لعادل عبدالمهدي غير البحث عن داعمين لا تخطئهم العين في وضع العراق الحالي بوجود كتل برلمانية أعلنت صراحة موقفها العقائدي بالولاء للنظام الإيراني في كسر العقوبات الأميركية، أو في استعدادها للذود عن ولاية الفقيه ضد أي هجمات أميركية على أرض العراق أو خارجها.
بمثل هذا السرد في الوعود وما يفيض عنها من ترقب نعتقد أن الميليشيات هذه المرة، ومعها شخصيات مختلفة، ستصعد على ظهر التظاهرات والاحتجاجات في أي مدينة عراقية لتصل إلى تنفيذ مآربها وسياساتها في المرحلة المقبلة على صعيد القرار الداخلي خدمة لمصالحها أو في رؤيتها للتصعيد بانتظار العاصفة التي ستجتاح النظام الإيراني وأذرعه، وهي عاصفة من المؤكد، إن وقعت، فإنها لن تترك إيران على حالها فمن طبع العواصف إزالة واقتلاع ما يقف في طريقها تاركة المجال لما يمكن أن يأتي بعدها من متغيرات.
قوى سياسية أخرى ساهمت في احتلال العراق تريد أن ترتدي عباءة المعارضة انتظارا منها لما ستؤول إليه حصتها بعد نفاد ذخيرتها السياسية وخزينها في ازدحام التدافع على بوابة الولاء للنظام الإيراني. معارضة من هذا النوع بعد 16 سنة من حكومات الاحتلال لا يمكن أن تكون إلا معارضة انتهازية من أجل إعادة إنتاج أحزابها وإعدادها لمواسم حصاد انتخابات برلمانية أخرى توقعاً منها لفشل وإسقاط الحكومة الحالية أو العملية السياسية برمتها.
هؤلاء يتطلعون إلى المستقبل بواقعية أكثر من غيرهم لقدرتهم على اقتفاء أثر مآلات النظام القائم وإصراره على المحاصصة الطائفية رغم أن الجميع يتبرأ ويتنصل منها، لكنها أصبحت مشروعا متجذرا يغذيه التاريخ الشخصي لزعماء السلطة ومكتسباتهم طيلة سنوات الاحتلال.
يأتي استذكار مهزلة الانتخابات البرلمانية مع الذكرى الأولى لانسحاب الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي، بما يلقيه هذا التزامن من ظلال العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران في احتلال العراق وإدارته، والقصد في انكشاف أحزاب السلطة في سياساتها أو أدوارها الميليشاوية حيث باتت الأسرار في المتناول وتحت اليد وعند الطلب وبالتفاصيل.
وبما أن الحرب أو على الأقل الاشتباكات بالإنابة وسيلة لا بد منها لإخراج النظام الإيراني من نفق العقوبات الاقتصادية المعتم، في حالة عدم إذعانه في اللحظات الأخيرة للشروط الأميركية، فإن السؤال يتجه إلى القوى المتحكمة في القرار السياسي للعراق عن جدوى المراوغة في العلاقة مع الولايات المتحدة، في وقت تدرك فيه الأخيرة أن النظام السياسي العراقي يرتمي في الأحضان الإيرانية بملء إرادته ويتسابق متطوعاً لأداء خدماته.
لذلك فإن أي حركة لاستقبال العواصف المحتملة في العراق لن يكتب لها النجاح إن كانت بمصادر من الداخل أو من تداعيات الأزمة الأميركية مع النظام الإيراني، لأنه لا توجد حركة بإمكانها تصحيح كارثة مرجعية النظام السياسي للاحتلال الأميركي إلا بإزالة آثار الاحتلال وأولها التغلغل الإيراني في العراق. لذا فإن التصحيح يتصل بسياسة المحتل في رؤيته للعراق وبمعالجة الخطأ الاستراتيجي للاحتلال، ودون ذلك ستظل المحاصصة عنواناً لتقاسم السلطة بين الاحتلالين، الأميركي والإيراني، ولعمليتهما السياسية وما جادت به على العراقيين من مأزق الطائفية والانتقام والاستباحة وانعدام الثقة بالحياة في الوطن.