سلب انتصار المعارضة في إسطنبول يكشف هشاشة الديمقراطية التركية
قاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى هزة سياسية واقتصادية جديدة من خلال دفعه لإعادة الانتخابات المحلية التي فاز بها خصومه في مدينة إسطنبول ويفتح بذلك أنظار العالم على حقيقة الديمقراطية التي يدافع عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه كونها مجرد لعبة شكلية للبقاء في السلطة.
وقوبل قرار الإعادة بردود فعل قوية في الداخل والخارج التقت في أغلبها على وصف ما جرى بأنه انقلاب على الديمقراطية، محذرة من نتائج ذلك على وضع تركيا، فيما أعلنت المعارضة أنها ستشارك بقوة في جولة الإعادة لإثبات أن حديث الحزب الحاكم عن “التزوير” في المرة الماضية ليس إلا محاولة لسرقة أصوات الناس من بوابة القانون.
وقرر حزب الشعب الجمهوري، الذي فاز مرشحه أكرم إمام أوغلو بالانتخابات الماضية، خوض انتخابات بلدية إسطنبول في 23 يونيو المقبل ووعد بـ” تحقيق انتصار كبير”، واصفا قرار الإعادة بأنه “دُوّن في تاريخ الديمقراطية بالبلاد كيوم أسود لن يُنسى أبدا”.
وألقى إمام أوغلو، مساء الاثنين، خطابا حماسيا أمام الآلاف من أنصاره في إسطنبول وعدهم فيه بالخروج أقوى في انتخابات الإعادة.
وقال “ربما تشعرون بالاستياء لكن لا تفقدوا الأمل” في وقت خرج فيه الآلاف من أنصاره إلى شوارع حي كاديكوي الراقي للاحتجاج على قرار لجنة الانتخابات.
وتقول تقارير تركية إن إمام أوغلو، الذي يظهر الآن في الساحة المنافس الذي يهدد نفوذ أردوغان في المستقبل، ويحوز على حظوظ كبيرة للفوز بنسبة أعلى من المرة الماضية، وهو ما تعكسه أرقام معجبيه على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وإنستغرام، وإن عدد متابعيه تخطى بسهولة شخصيات كبيرة من حزب العدالة والتنمية الحاكم مثل وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أو وزير المالية والخزانة بيرات البيرق، والرجل الذي هزمه ليصبح رئيس بلدية إسطنبول، بن علي يلدريم ورئيس الوزراء السابق
صاحب الشخصية البارزة وحليف أردوغان المقرب.
ووصف مراقبون أتراك إعادة الانتخابات بأنها خطوة غير محسوبة من الحزب الحاكم، الذي بدا همه الوحيد منصرفا لاستعادة نفوذه على المدينة، ربما استرضاء لغرور أردوغان. لكن الحزب لم يقرأ حسابا لنتائج هذه الخطوة على صورة تركيا الخارجية وعلى وضعها الاقتصادي المهزوز بسبب أزمات سياسية سابقة، خاصة أن البلاد في حاجة إلى الاستقرار وتبريد الأزمات التي تورطت فيها.
وقال الكاتب التركي أرغون باباهان في تصريح لـ”العرب” إن الحزب الحاكم كسر عقدا بين الدولة التركية ومواطنيها يقوم على احترام نتائج صناديق الاقتراع من الجانبين، محذرا من أن التحايل على نتائج بلدية إسطنبول “قد يشير إلى نهاية العملية الانتخابية الشفافة والنزيهة في تركيا”.
وأضف باباهان إنه وبسبب مشاكل تركيا الاقتصادية والطريقة التي اختارها حزب العدالة والتنمية، “لن يفوز أردوغان في انتخابات أخرى”، وأن “خياره الوحيد للبقاء يبقى التمسك بالقوة بكل الوسائل”.
وصار واضحا أن لجنة الانتخابات العليا خاضعة لإرادة الحزب الحاكم ولا يمكن أن تكون الانتخابات التي تشرف عليها سواء التي مضت أو التي ستجرى الشهر المقبل، وهو ما حدا بحزب الشعب الجمهوري إلى المطالبة بحل هذه اللجنة.
وقال مركز صوفان للأبحاث ومقره الولايات المتحدة إن قرار اللجنة العليا للانتخابات يؤشر إلى “مخاوف كبيرة” على مستقبل الديمقراطية في تركيا.
وأضاف “نظرا للقيود على حرية التعبير وعدم استقلالية القضاء المتزايدة في تركيا، فإن التلاعب الأخير في الانتخابات مؤشر واضح للشعب التركي والعالم، بأن أردوغان مستعد للسعي إلى السلطة المطلقة مهما كلف الأمر”.
وجاء إلغاء نتائج انتخابات إسطنبول تأكيدا جديدا للخارج، وخاصة الدول الأوروبية التي تتفاقم الخلافات بينها وبين تركيا بشأن حقوق الإنسان، على أن “الديمقراطية التركية” هي واجهة لبقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم، وأن عنوانها الأبرز هو “ادخل الانتخابات وشارك ولكن الفائز يجب أن يكون دائما منا”.
ووصف وزير الخارجية الألماني هايكو ماس الثلاثاء قرار إعادة إجراء انتخابات بلدية إسطنبول بأنه “غير شفاف وغير مفهوم بالنسبة لنا”.
وقال ماس في تصريحات “إرادة الناخبين الأتراك هي فقط من يقرر من يتولى رئاسة بلدية إسطنبول”.
وفي باريس، اعتبرت وزارة الخارجية الفرنسية أن الإلغاء يطرح تساؤلات، وحثت السلطات التركية على “تنفيذ جميع التدابير اللازمة لضمان احترام المبادئ الديمقراطية والتعددية والإنصاف والشفافية، لاسيما من خلال ضمان وجود مراقبين دوليين”.
من جهته، جدد المستشار النمساوي سيباستيان كورتس مطالبته بإنهاء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقال كورتس “ليس لدى من لا يقبل الانتخابات الديمقراطية شيء يبحث عنه في الاتحاد الأوروبي”.
وستضاعف الصورة المهزوزة للنموذج التركي في المجال السياسي من محنة الاقتصاد التركي الذي بات في الأشهر الأخير واقعا تحت تأثير الأزمات التي لا يفتأ أردوغان يخوضها خارجيا دون قراءة لعواقبها.
وأبرز تلك الأزمات المفتعلة كانت مع الولايات المتحدة التي لجأت إلى أسلوب العقوبات لتحرير القس أندرو برونسون الذي كانت تحتجزه تركيا قبل أن تطلق سراحه تحت وقع ضغوط واشنطن. وقد أفضى الغضب الأميركي إلى تهاو كبير لليرة التركية لم تتعاف منه إلى حد الآن.
وعلى العكس، ينتظر أن تتضاعف محنة الليرة التركية مع قرار إعادة الانتخابات وإرسال إشارات سيئة عن الاستقرار السياسي في البلاد.
ورصدت وكالة “بلومبرغ” للأنباء أن قرار إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول قد قاد إلى تراجع الليرة التركية في ظل مخاوف المستثمرين من تصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي.
ونقلت الوكالة عن إيليا جوفشتاين الخبير الاستراتيجي في “ستاندرد تشارترد”، في نيويورك قوله “لقد تم تذكير المستثمرين مرة أخرى بالحالة الهشة والمتآكلة للمؤسسات الديمقراطية” في تركيا.
وتراجعت الليرة بأكثر من 3 بالمئة بعد إعلان القرار، ما قاد إلى تراجع العملة التركية إلى أدنى مستوى لها في سبعة أشهر. وتتعرض العملة التركية بالفعل لضغوط، حيث تجاوز سعر صرف الدولار ست ليرات.
وقال جينز نيستيدت، الخبير بمؤسسة مختصة في إدارة الأصول بنيويورك “حالة الغموض المرتبطة بالانتخابات ستعود من جديد وسيتم إرجاء الكثير من التصويبات السياسية الضرورية حتى يوليو، وهو شيء مؤسف”.