في كتابه "المنقذ من الضلال"، ركّز الإمام أبو حامد الغزاليّ في معرفة الله وإدراكه عن طريق العقل، منطلقًا من أنّ الشكّ الفلسفيّ الباحث عن الحقائق في الوجود حميد ومقدّر. فهو يستنتج عن طريق البراهين الحقيقة ويؤكّد وجودها، كما أنّ العقل بحدّ ذاته قادر على البلوغ بالبراهين عينها إلى تفسير الوجود الإلهيّ، مستندًا بأنّ الشكّ العقليّ وليس المرضيّ طريق إلى اليقين,
على غراره سلك توما الأكوينيّ، وهو قديس وفيلسوف. لقد انطلق من اللاهوت الطبيعيّ، والفلسفة العقلانيّة، مستعملاً العقل وسيلة لفهم معاني الخلق، والإضاءة على التجسّد الإلهيّ وصولاً إلى الموت والقيامة، وقد ارتكز في كلّ ذلك على المنطق العقلانيّ كما فعل الغزاليّ، وكلاهما ينتميان في الفلسفة إلى أرسطو، والفرق بين أرسطو وأفلاطون، أن الأوّل داعية عقل، والثاني داعية قلب ينظر إلى اللامحسوس بما هو عليه من أزليّة وأبديّة تنهمر على القلب ليفهم، أمّا أرسطو فيستعين بالعقل ليغوص في المحسوس عن طريق البرهان القائد نحو الاستنتاج.
تعيدنا المواجهة بين المسيح القائم من بين الأموات وتوما الرّسول المكنّى بالتوأم إلى معنى الجدليّة بين الشكّ واليقين، أي بين الشكّ والإيمان. ذلك أنّ حادثة القيامة لم يفمها تلاميذ المسيح على الرغم من أنّه في مراحل عديدة أعلمهم بأنّ ابن البشر سيسلم إلى أيدي رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيين قيلدونه ويصلبونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم. لم يقف السيّد عند حدث موته بل في نبؤته أمام تلاميذه، علمًا أنّ السيّد قبل آلامه الطوعيّة تجلّى على طور ثابور أمام يعقوب وبطرس ويوحنّا بين موسى وإيليّا، وظهر التجلّي في جوهره كشفًا حقيقيّا لمجد يسوع على الصليب وفي القيامة.
لماذا التلاميذ لم يفهموا أنّ المعلّم سيقوم؟ ليس من إجابة واضحة، بدليل أن بطرس أثناء المحاكمة أنكره ثلاثًا قبل صياح الديك، وبقيّة التلاميذ هربوا خوفًا من اليهود، وتركوا المسيح وحيدًا في المواجهة، وحين علّق على خشبة، لم يحضر أحد إليه سوى أمّه مريم ويوحنّا، هذا الذي وضع رأسه على صدره أثناء العشاء، ومريم أمِّ يعقوب ومريم أمّ يوسي. ومنذ ذلك الوقت سلّم يسوع أمّه ليوحنّا قائلاً له هذه أمك ولها هوذا ابنك. النسوة كنَّ أجرأ بكثير من تلاميذه باستثناء يوحنّا، وهنّ أول من اكتشفن القبر فارغًا، والملاك الواقف عند القبر قال لهنّ: من تلطبن أجابته يسوع الناصريّ المصلوب أجابهنّ ليس هو ها هنا إنّه قد قام، إذهبن وبشرن الرسل وقلن لهم بأن يسبقنه إلى الجبل إلى الجليل هناك سيراهم. وعلى الرغم من ذلك ظهر السيد على التلاميذ المجتمعين في العليّة والأبواب مغلقة وقال لهم السلام لكم.
كيف ظهر في الأساس والأبواب مغلقة، وبالأحرى كيف قام من بين الأموات؟ لقد اتجه يسوع إلى موته بقوّة ما حقّقه من عجائب شفاء سواء للأعمى أو الأبرض أو المخلّع، وبقوّة إقامته الموتى من القبور كان مشهد ألعازر آخرها، وهو مدهش للغاية بسبب أنه قد انتن في القبر أربعة أيّام. هذه القوّة قد أبداها في العالم نصرًا استباقيًّا على موته بل على موتنا، ولهذا كان يقول لتلاميذه بأنه سيصلب ولكنه في اليوم الثالث يقوم. بهذا العنى ليس طبيعيًّا أن تظهر قوّته وقدرته لللآخرين ولا تبرز بغلبته النهائيّة أو في المواجهة الأخيرة، حتّى إنّه حين أسلم الروح على الصليب كثيرون من أجساد القديسين الراقدين نهضت وظهروا لكثيرين، أي أنهم عاشوا. كلّ هذا احتشد في المسيح على الصليب لينفجر قيامة حقيقيّة بذات سلطانه، أي بالمجد الذي انكشف على جبل التجلّي ومن ثمّ على الصليب. يسوع قام بقوّته بقدرته هو إنّما بجسد ممجّد، أي أنّه غدا جسدًا نورانيًّا قادرًا على اختراق الحجب، ليس كشبح حتمًا بل كنور، ويقول آباؤنا بأنّه هو النور غير المخلوق بحسب غريغوريوس بالاماس، ويكشف لنا بأننا به سنصير إلى تلك الحالة القياميّة والنورانيّة لحظة انبعاثنا من جديد وولادتنا من حضنه هو وليس من حضن امرأة بل بشفاعة امرأة ملتحفة بالنور عينه وهي مريم العذراء أمّه.
في اللحظة التي كان التلاميذ مجتمعين بعد قيامته ظهر يسوع في وسطهم وقال السلام لكم. ظهر بكثافة النور، أي أنه لم يعد جسدًا من تراب أي كناسوت. سطع مجدًا حقيقيًّا فائق اللمعان؟ إنّها المفاجأة القصوى التي لم يتوقّعوها، ولكنّهم صدقوه حين حيّاهم كما كان يحييهم بحنان ورقّة. مريم المجدليّة ناداها بالعبرانيّة ميريام فأجابته باللغة عينها رابوني أي يا معلّم. تلميذا عمواس لم يعرفاه إلاّ عند كسر الخبز فتوارى عنهما، كان يسوع، وقبل صعوده إلى السماء، يظهر ويتحرّك كنور حقيقيّ بل كجسد نورانيّ كامل البهاء كما كان في حادثة التجلّي، وكان التلاميذ يعرفونه. لماذا توما لم يصدّق التلاميذ أنهم رأوا الرب مع أنه كان يجب أن يشعر بانبهارهم وانبلاج إحساسهم الفرح، وهو لعلّه سمعه يقول بأنّه سيتألّم ويصلب ويموت وفي اليوم الثالث يقوم؟ يقول الشرّاح بأنّ توما لم يكن شخصًا عاديًّا، بل كان ذكيًّا مثقّفًا وفهيمًا. ولعلّه خشي من أن يكون التلاميذ قد باتوا أسرى الوهم، إذ إنّ المحبّة الفيّاضة تجعلهم أسرى الوهم بعيدين عن الحقيقة. لا يعني ذلك أنّ توما كان خاطئًا، ولا هو شكّاك بالمعنى المرَضيّ، بل هو يشاء اكتشاف الحقيقة عن طريق العقل، اي عن طريق البراهين والأسانيد أي اللمس، فقال لهم إن لم أعاين أثر المسامير في يديه ورجليه لست أؤمن. الرجل يتكلم بالحق ظنًّا من أن الوهم يقضي على الحق. في الوقت عينه لم يرَ توما لغة القلب عند التلاميذ الذين رأوا الرب، أو عند مريم المجدليّة التي صرخت بعدما ناداها ميريام رابوني. توما شاء أن يرى بالعقل حتّى يؤمن، أحسّ يسوع بشكوك
توما وهو دومًا فاحص القلوب والكلى، عاد يسوع إلى التلاميذ جيث دخل العليّة والأبواب مغلقة وحيّاهم كالعادة قائلاً السلام لكم، ونادى توما داعيًا إياه بأن يضع يده في أثر المسامير والجنب المطعون بحربة ليقول له يا توما هاذا أنا يسوع المتألّم والمصلوب والظافر على الموت، هذا أنا النور، ضعه في قلبك ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا لأنّ النور الذي فيك هو الذي يدفعك لتراني دائمًا ربًّا وإلهًا، حتّى صرخ قائلاً: "ربي وإلهي".
لقد فذف الله نورًا في قلب توما أو صدره. قد يكون الغزاليّ استنبط ورأى، ولكنّه رأى عن طريق العقل وليس عن طريق القلب. القراءة الأرثوذكسيّة تربط دومًا بين العقل والقلب، بمعنى أنها تقول بإعمال العقل في القلب ضمن دائرة التوازن، فإذا كانت قراءة العقل لله وأعماله باردة فقد يبدو الله بحد ذاته باردًا غير منعطف على بشريته المخلوقة وغير عطوف أو عاطف عليها.هذا ما يفرّق اللاهوت عن الفلسفة، إذ إنه استند إلى التجسّد الإلهيّ، حيث الله صار جسدًا، والإغريق مع فلاسفتهم رأوه يحرّك ولا يتحرّك يخلق وهو غير مخلوق. ما أخذناه نحن من الفلسفة الإغريقيّة بانّ المسيح المولود من الآب قبل كلّ الدهور، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق مساو لللآب في الجوهر، أي أنّه مولود في الأزليّة ومنها وممدود إلى الأبدية والتاريخ في آن، وذلك لدحض مخلوقيّة الابن كمبدأ قام عند آريوس الاسكندريّ. لقد ظهر يسوع في تاريخ أزمنة الناس وشفاهم من الأمراض والأسقام وأقام موتاهم من الموت إلى أن مات هو بحدّ ذاته وقام من بين الأموات كاشفًا ما لم يستطع أحد من قبل أو بعد كشفه وهو أنّ الله محبّة.والمحبّة تنفي كلّ خوف وتبطل الشكّ فينا.
وعلى الرغم من ذلك، يجب التمييز بين الشكّ الموضوعيّ والعقلانيّ الباحث للحقائق بالبراهين امن أجل الحقّ واليقين، والشكّ المرضيّ الذي يأسر صاحبه في عقد نفسيّة أو هو يتولّد منها، فتصير النفس أمّارة بالسوء بالقول والفعل.في المناهج العلميّة والاقتصادية والفكريّة، تسوغ الشكوك الباحثة والعمدة على الاستنطاق والافتراض والاستقراء والاستمداد والاستنباط حتى تتماسك نبية التحليل Demonstration حتى تشي الخاتمة بالأجوبة الحاسمة أو الشافية. لا يخالط الشكّ العلميّ شعور أو تختلجه العواطف، قد يبدو الشعور هنا نوعًا من الاشتباه، والاشتباه بعيد كلّ البعد عن العاطفة. في اللاهوت أنت لا تشتبه لكنّك أحيانًا تستتنبط ضمن الأدب المقارن، وتستند عل الروايات التاريخيّة الظاهرة في الإنجيل وتعطفها على العصر الذي فيه عاش يسوع، لتشير بالقول والفعل بأن يسوع هو ابن الله الحيّ. التماسك العقيديّ-اللاهوتيّ يجيء من فعل الاستناد.
الأرثوذكس لا يستندون بالكليّة إلى العقل ليبرهنوا موجودية الله بالابن، وتجسده وموته وقيامته. الإصحاح الأول عند يوحنا الإنجيلي، ليس لاهوتًا عقلانيًّا، إنه إصحاح المحبة بامتياز. لم يكن له أن يكتب هذا الإصحاح لم لو يستند في العشاء الأخير على صدر المعلّم ويعبّ من ينابيع قلبه وغقله... من هنا كان تشديده في العشاء الأخير على وضع عظة يسوع عن المحبة كطريق إلى الموت والقيامة أي إلى الحياة الجديدة... وهو عينه قال الله محبة. الفرق بين يوحنا وتوما، أنّ يوحنّا كان عارفًا بأن يسوع سيقوم وحين ظهر لتلاميذه ره في قلبه، بينما توما انتظر ظهور المسيح ليلمس آثار الآلام والجراح بإصبعه حتى آمن. آمن عن طريق اللمس والرؤية والمكاشفة، حتى قال الرب طوبى للذين آمنوا ولم يروا. من هنا الأرثوذكس يقولون بضرورة إعمال العقل في القلب من أجل التوازن البشريّ، ولكي يستند العقل إلى حرارة القلب في انسكاب الرؤى.
أعطنا ربّي أن نراك في القلب والعقل معًا، فرؤيتك أشهى وأجمل من ذكرك. والدعاء في مدى القيامة تعالى أيها القائم من بين الأموات وامكث معنا إلى الأبد حتى لا تمزقنا الشكوك ولا توجعنا الخطايا ولا يفترسنا الموت بل نبقى ظافرين بك ومعك إلى انقضاء الدهر آمين.
جورج عبيد