بدا أركان نظام خامنئي يشتغلون على تجريب سبل مواجهة المرحلة الجديدة من العقوبات الأميركية الهادفة إلى تغيير سلوكهم التخريبي والتوسعي في المنطقة العربية، وليس إلى تغيير نظامهم السياسي وكبح جماح صناعة القنبلة النووية، وتعطيل مشروعهم الإمبراطوري المتناقض مع أبسط مفاهيم العصر الحديث والتخلص من الازدواجية بين الدولة المدنية الحديثة والدولة الأوتوقراطية الحالمة بالسيطرة على العالم الإسلامي، مع أن حاكمها يدرك أن هذا المشروع التوسعي المغطى بالشعار الشيعي لا يجد مساحة زمنية ولا مكانية له في العالم الجديد حتى ضمن موصوفات الدين الإسلامي.
أصبحت القناعة راسخة لدى حكام طهران بعد دخول عقوبات التضييق على صادرات النفط بمرحلتها الجديدة أنها ليست مجرد كلام إعلامي تهريجي مثلما اعتادوا عليه، فالقرار الأميركي سيؤدي إلى نتائج اقتصادية مؤذية لطهران، لكنهم يحاولون الاستفادة من تجربة العراق في مواجهة الحصار القاسي خلال سنوات الحصار بين 1990 و2003 كوسيلة في التحايل على العقوبات الأممية وليست الأميركية حسب، وكيف اضطر للتعاون مع إيران في تصدير كميات قليلة من نفطه في ناقلات إيرانية، وكيف ابتزت طهران العراق في ذلك الوقت سواء في الأسعار أو في تلك المهادنة الخبيثة التي وفّرت لها المال الكثير، مع أنها كانت تشتغل على تغيير نظامه حينذاك وعجزت عن ذلك.
الخطة الرديفة في التحايل الإيراني على العقوبات باتت جاهزة ويتم تفعيلها بقوة حتى وإن وصلت طهران إلى خسارة ما لا يقل عن 80 بالمئة من صادراتها النفطية ومساحتها الأولى هي العراق بعد أن أحكمت إيران وضع ترتيبات مالية مصرفية وغير مصرفية كبيرة وعلاقات تجارية ومافيات عريقة في التهريب ليست بعيدة عن عيون الرقابة المالية الأميركية.
الأحزاب في العراق لا تكلف إيران تبعات مالية مثلما هو عليه حزب الله في لبنان الذي لديه ميزانية كبيرة تعادل ميزانية دولة، مصادرها إضافة للدعم المالي الإيراني ما يصله من موارد تصل إلى ثلاثة مليارات دولار سنويا من أرباح شركاته الاستيرادية داخل لبنان فقط ومن استثماره في النفط العراقي، أو ما يحصل عليه من أموال من تجارة المخدرات وغسيل الأموال في أميركا اللاتينية التي تصل إلى مبلغ مليار دولار، حسب ما تتناقله الأخبار والمصادر المالية الأميركية وأجهزتها الاستخبارية، حيث أعلنت الخزانة الأميركية ضمن حملتها للتضييق سياسيا وماليا على حزب الله أنها وضعت ثلاثة أسماء كبيرة من حزب الله في قائمة المطلوبين للعدالة الأميركية، كما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة قبل ثلاثة أيام طلبه بتجريد حزب الله من سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي لبناني.
في ذات السياق التصعيدي الأميركي أبدى الجنرال الأميركي المتقاعد دافيد باتريوس مخاوفه من “لبننة العراق” من خلال تنامي نفوذ الفصائل المسلحة داخل العراق. العقل السياسي الحاكم في طهران وفي المرحلة الحالية من مواجهته للولايات المتحدة لا يخضع في سياساته لأيديولوجية الدين والمذهب التي يوظفها للتعبئة الداخلية داخل إيران أو العراق الذي يقدّم له في هذا المستوى المتقدّم من الهيمنة مردودات هائلة في المناورة على العقوبات في الجانبين المالي واللوجستي العسكري، حيث تتم عمليات تهريب عملة الدولار الأميركي من داخل العراق ومن أموال شعبه مقابل البضائع الرديئة التي تغرق السوق العراقية وتقضي على الصناعات الوطنية خصوصاً الصناعات الغذائية، وآخر فضيحة هي استيراد البيض من إيران لتقضي على الإنتاج المحلي العراقي من هذه المادة الغذائية.
يعتقد نظام طهران أن لديه إمكانيات ليست قليلة حين جهز عبر حرسه الثوري قواعد الصواريخ اللوجستية في الأراضي العراقية. لكن هذا النظام في حالة من التراجع وتضيق أمامه وسائل المناورة، وقد غادر حالة الزهو التي يحاول من خلالها إبقاء أتباعه في العراق وسوريا ولبنان بدرجات عالية من الولاء، لكنه يحاول المكابرة، فيواصل تكرار خطابه التقليدي الذي فقد جاذبيته عبر قائمة مصطلحات رتيبة من قبيل “نضال جبهة المقاومة ضد أميركا وحلفائها ستنتصر، وإن الرئيس دونالد ترامب ستنتهي ولايته في نوفمبر 2020″.
ولعل هذه المفردات العقيمة قد تخدم نظام إيران تعبوياً، لكن التعبئة الإعلامية لا تنفع في اللعبة الحالية وهو يعرف ذلك، لكن لا سبل مريحة أمامه في مواجهة استحقاقات العقوبات في ميدان النفط والطاقة والنشاط النووي الذي سيأتي اليوم الذي يبيعه في المزاد مثلما فعل معمر القذافي، أو يخضع لعمليات تدميره مثلما حصل لصدام حسين.
الحاكم الإيراني يحاول استخدام موروثه السياسي في المخادعة والابتزاز، مثلا عبر النفاذ داخل جدار العلاقات الخليجية واستثمار خلاف قطر مع المجموعة العربية الخليجية في تسويق متبادل مع حكومة الدوحة الخاضعة لإملاءات طهران الحالية في فك عزلته من دون مبررات واقعية سوى التهرب من استحقاقات الوفاء بالعلاقات الأخوية الخليجية، أو إحياء المريض الإخواني الذي أصبح جزءا من مرحلة انتهت في الواقع السياسي العربي.
عبر هذه العقلية الماكرة في أمثلة عديدة من قبيل دعوة وزير الخارجية محمد جواد ظريف خلال تواجده في الدوحة إلى أن تصبح علاقات بلاده مع المملكة العربية السعودية مثلما هي مع قطر والكويت وعمان.
هناك تناقضات وارتباك في الخطاب السياسي والإعلامي للمسؤولين الإيرانيين دبلوماسيا وعسكريا، وقد يكون ذلك مقصوداً ضمن تكتيكات الحاكم الأول خامنئي في توزيع الأدوار وعرض القوة رغم عدم فعاليتها أمام القوة الأميركية، فوزير الخارجية محمد جواد ظريف في تصريحاته لصحيفة إندبندنت البريطانية استبعد حصول مواجهة عسكرية إيرانية أميركية، وبذات اليوم أعلن نائبه عباس عراقي إن الحرس الثوري والقوات الأميركية يمكن أن يتواجها في الخليج أو أي منطقة أخرى، فيما ينفذ القائد العام للجيش الإيراني عبدالرحيم موسوي توجيهات قائده الأعلى الذي طالب الإيرانيين باستعراض القوة “العدو لا يكشف عن استعدادات عسكرية للحرب لكن ينبغي على الشعب الإيراني أن يستعرض قدراته الحربية”.
ولهذا يطالب موسوي أتباعه إلى تمثل واقعة ليلة هجوم عسكري أميركي وأن يتعلموا لعبة الحرب، وكأنهم لم يتعلموها لثماني سنوات مع العراق، مع أنه يستبعد الهجوم الأميركي البرّي، ثم يستبعد الجنرال قاسم سليماني وفقا لما يقول إنها معلومات خاصة عدم توقع حصول اشتباك عسكري أميركي إيراني.
مع ذلك تحاول طهران وضع الساحة العراقية عسكريا في حالة الموالاة والتأهب. الإيرانيون يعلمون جيداً بأنهم لا يدخلون معركة سياسية أو عسكرية مع جيبوتي أو الصومال، إنهم أمام الدولة العظمى عسكريا واستخباريا وإعلاميا وعلمياً، وإمكانياتهم في المواجهة محدودة وذات أبعاد إعلامية تعبوية فقط، والتهويشات بغلق مضيق هرمز لا يمكن أن تجد طريقها للواقع، ما عدا الوضع العراقي الذي يوفر لهم بسبب ولاء حكامه إمكانيات اقتصادية مالية وقدر محدود غير مؤثر في السياسة.
اعتقاد طهران أن المحدودية السياسية للأزمة مع واشنطن دون الأمم المتحدة تمنحها القدرة على المناورة أو استعطاف العالم، هي مراهنة غير مجدية. إذا كان حكّام طهران يعتقدون بأنهم يمتلكون قدرا كافيا من الاحتياطات السياسية التي دائما ما يتهمون نظام صدام حسين بعدم امتلاكها، فإن عليهم استباق الانهيارات المقبلة والقبول بأقل الأضرار وهي التنازل عن كبرياء الإمبراطورية، وترك العراق وشعوب المنطقة أحرارا وآمنين في أوطانهم.