بات الحديث عمّا يسمّى “صفقة القرن” موضع انشغال كثيرين، بين أنظمة وأحزاب وفصائل ومفكّرين ونشطاء، بيد أن ذلك الانشغال، على أهميته، وعلى اختلاف وظائفه وتعدّد مواقفه وتباين أغراضه، لا يشرح ماهية تلك الصفقة أو طبيعتها.
ثمة ثلاث ملاحظات هنا، الأولى أننا إزاء حديث عام، لأن أصحاب الصفقة، الإدارة الأميركية، لم تفصح عنها تماما بعد، ولم تشرح خطوطها العامة على نحو واضح، وإن كان يصحّ التوجّس من أي خطة أميركية باعتبار أن التجربة بينت أن الولايات المتحدة تأخذ مصالح إسرائيل قبل أي شيء.
والثانية أن أصحاب الانشغال المذكور، خاصة المعترضين على الصفقة، لم يقدموا أي وجهة نظر تتعلق بكيفية قيامهم بذلك، أو ما هي أدواتهم لتفويت استهدافاتها، في استعادة لتجارب سابقة قامت على مجرد الرفض، في حين ثمة في الواقع قابلية لتمرير أي خطة.
والثالثة أن ذلك الحديث عن الصفقة ولاسيما عن مقاومتها، عجز حتى الآن عن توليد الأدوات والوسائل، أو ردود الفعل الشعبية التي يمكن أن تقف في وجه تقدّم هذه الصفقة على الأرض. وقد شهدنا في الفترة الماضية، اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإطاحته بفكرة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، أو سعيه إلى تصفية قضية اللاجئين عبر تصفية وكالة “أونروا”، ثم إغلاقه مكتب منظمة التحرير في واشنطن، إذ مرت كل هذه الخطوات دون توليد أي ردّات فعل تتناسب مع تأثيراتها ومخاطرها.
على الصعيد الفلسطيني يفترض أن نلاحظ أيضا، أنّ كل ذلك يجري في ظل محاولات تجفيف موارد السلطة، بوقف التمويل الأميركي، وبإيقاف حوالات “المقاصة” الإسرائيلية، وبتطوير دور الإدارة المدنية الإسرائيلية للضفة، على حساب السلطة، مع وجود حوالي 130 ألف عامل يشتغلون في إسرائيل، ووجود حوالي ربع مليون موظف فلسطيني يفترض أنهم يتلقون رواتبهم من السلطة، التي تعتمد أيضا على الموارد التي تتأتى من الولايات المتحدة ومن تحويل إسرائيل أموال “المقاصة”، إلى درجة يرى معها المحلل الإسرائيلي جاكي خوجي أن “إسرائيل تمسك بالاقتصاد الفلسطيني من رقبته وتسيطر عملياً على ميزانية السلطة”.
القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، تمرّ بذات المرحلة التي سبقت اتفاق أوسلو عام 1993، لجهة تجفيف مواردها المالية، ولجهة تجاوزها أو التلويح بوجود بدائل لها، الأمر الذي استدرجها آنذاك، إلى حبائل التوقيع على اتفاق أوسلو، وإقامة السلطة، وهي مجرد سلطة حكم ذاتي، أي أقلّ من دولة، ما يفيد بأن السلطة والمجتمع الفلسطينيين يعيشان تحت هيمنة الاحتلال، وبالاعتماد عليه من حيث الموارد والبني التحتية ومراكز العبور والمعاملات الإدارية.
أما إذا كانت تلك الصفقة لا تقتصر على الجانب الفلسطيني، فقط، وإنها تشمل المنطقة العربية عموما، وذلك بالسعي إلى تشريع وتعزيز وجود إسرائيل فيها، فليس في الواقع العربي ما يمكن أن يشكّل حائط صدّ، خصوصا مع انفراط عقد “النظام العربي”، شكلياً وعملياً، ووجود محاور وأجندات ومصالح عربية متضاربة، ومع غلبة مخاطر أخرى، يتمثّل أهمّها في صعود النفوذ الإيراني، ومحاولات تحجيمه، في المشرق العربي سيما في سوريا والعراق.
عدا كل تلك الملاحظات فإنّ واشنطن اشتغلت طوال العامين الماضيين ليس فقط على الترويج لتلك الخطة بشكل دؤوب، بل إنها سعت إلى فرض أو إلى تمرير بعض مساراتها العملية على أكثر من صعيد. والقصد أن الإدارة الأميركية عملت على تمهيد الأرض قبل وضع الخطة على الطاولة، بشكل علنيّ وواضح، في يونيو المقبل، على الأرجح، بحسب تصريح أدلى به مؤخرا جاريد كوشنير (مستشار الرئيس ترامب وصهره).
الآن، فإنّ المهم في تلك الخطة ومهما كانت طبيعتها، أن الولايات المتحدة، التي كانت وقّعت على اتفاق أوسلو في البيت الأبيض، تخلّت عنه تماما وعن مبدأ حلّ الدولتين وعن مبدأ الأرض مقابل السلام. وأنها في ذات السياق أطاحت بالمبادرة العربية للسلام، التي كانت طرحت في القمة العربية في بيروت عام 2002، والتي تأسست، أصلا، على ذات المبدأين، مع إضافة جزرة التطبيع (سلام كامل – تطبيع شامل). الإدارة الأميركية الحالية ترى في الظروف الراهنة في الشرق الأوسط، خاصة مع تغوّل النفوذ الإيراني، فرصتها السانحة لإجراء تغييرات في مضامين الصراع العربي الإسرائيلي، وأساس ذلك تجاوز الملف الفلسطيني، وصولا إلى تطبيع وجود إسرائيل في المنطقة، أي إنها في كل ذلك تزيح جانبا المصالح والحقوق العربية لصالح إسرائيل، مع الأخذ بالاعتبار أن ثمن تلك “الصفقة”، السياسية والأمنية والاقتصادية، سيتم دفعها من قبل الأطراف العرب أساسا.
وقصارى القول، فإننا مع صفقة القرن سنكون إزاء خطة لا تغيّر من الواقع السياسي في المنطقة، لكنها في المقابل تدعي تقديم وعود اقتصادية كبيرة، وضمن ذلك للفلسطينيين، في واقع بات فيه النظام العربي أقلّ قدرة على التأثير في أحواله من الفاعلين الخارجيين، خاصة الولايات المتحدة.