انتهت الجولة الثانية عشرة من محادثات أستانة، الجمعة 26 أبريل 2019، دون تحقيق تقدم بشأن تشكيل اللجنة الدستورية، ووقف التصعيد العسكري للنظام السوري وروسيا على محافظة إدلب رابعة مناطق خفض التصعيد.
ويتزامن فشل هذا الرهان الروسي على الحل في سوريا طبقاً لمسار أستانة، مع عدم وجود خط واضح أو إستراتيجية أميركية حيال الوضع السوري نتيجة المواقف المتأرجحة التي تعتمدها إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه مجمل النزاعات في المنطقة. يدلل ذلك، بالإضافة إلى عجز منظمة الأمم المتحدة وكسوف الأدوار الأوروبية، على تخبط دولي حيال مجريات ومخرجات المسألة السورية.
زيادة على الوظيفة الجيوسياسية للنزاعات والحروب السورية في إعادة تركيب الإقليم وتغيير وجهه يتبين التخبط والانقسام الدولي على الصعيد الاقتصادي. وبرز التنافس في الفترة الأخيرة ليس فقط في السيطرة على المرافئ والمرافق الحيوية بين قوى الأمر الواقع الخارجية والداخلية بين روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية، بل كذلك في الوجود المستقبلي خلال عملية إعادة الإعمار وما بعدها ويشمل ذلك الصين وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا ضمن القوى المتصارعة.
في الأشهر الأخيرة ساد انطباع أن “الحروب السورية” أسفرت عن انتظار النظام ومحوره اقتراب التطبيع العربي معه، خاصة إثر زيارة الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير إلى دمشق في ديسمبر الماضي، لكن التطورات الأخيرة برهنت على صعوبة تحويل روسيا الانتصارات الميدانية إلى حل سياسي يسمح بإعادة الإعمار والاستقرار.
وسلط تفاقم الأزمة الاقتصادية داخل سوريا الضوء على تأثير سلاح العقوبات الأميركي وبين أنه لا أفق لحل واقعي في سوريا من دون الحد الأدنى للوفاق الدولي وعنوانه القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي وفق مسار جنيف.
يتأكد المأزق مع تفاقم المشهد الميداني السوري الذي يبقى معقدا بصورة لم يتوقعها أي طرف عندما بدأ الحراك الشعبي في مارس عام 2011.
تتقاسم الأجواء السورية وتحلق فيها طائرات أجنبية روسية وإسرائيلية وأميركية وتركية، وتواصل واشنطن وحلفاؤها دعم وجود “قوات سوريا الديمقراطية” بعد إنهاء تمركز عناصر “تنظيم الدولة الإسلامية”، فيما يواصل جيش النظام السوري مدعوما من حلفائه الروس قصف محافظة إدلب خاصة منطقة اتفاق الهدنة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في 17 سبتمبر الماضي، بينما يواصل الجيش التركي تدعيم وجوده في الأراضي السورية التي دخلها بين 2016 و2018، ويفاوض واشنطن على “المنطقة الآمنة” شرق نهر الفرات.
وأتى قرار الرئيس الأميركي حول الجولان وردة الفعل الروسية الخافتة تجاهه (في موازاة وساطة تبادل الرفات والأسرى بين الجانبين السوري والإسرائيلي) ليبينا أن التقاطعات الدولية، كما الصراع الأهلي والحروب بالوكالة، دارت على حساب كل مكونات الشعب السوري، بما فيها من يتوهم انتصاراً فوق الركام أو انتصاراً مدعوماً بزند الأجنبي.
والأدهى من ذلك صعوبة سلوك درب التسوية العملية، لأن الانتقال من مسار أستانة إلى مسار جنيف كما ترغب واشنطن غير مضمون النتائج لأن اللعب على تضارب المسارات والمصالح يمكن أن يكون وسيلة للوصول إلى تقاسم مناطق النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي وربما الوصول إلى تغيير الخرائط وتكريس التقسيم الواقعي الذي يتمظهر على الشكل الآتي:
الجولان المحتل من إسرائيل وجواره منطقة آمنة لإسرائيل، منطقة آمنة لتركيا ووجود عسكري لها في بعض شمال وشرق سوريا، وجود عسكري روسي وحماية لدمشق والساحل مع استثمار مرفأ طرطوس ومسعى لعرقلة التمركز الإيراني في اللاذقية، وجود عسكري وإشراف أميركي – غربي على المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، وكذلك وجود إيراني من جنوب دمشق إلى حلب وتغلغل في مفاصل النظام، حيث يصف مراقب غربي أن وضع نظام الأسد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية يشبه وضع “التوأم السيامي” وأن الرهان على الفصل بينهما غير واقعي.
لا يمكن تفسير الوصول إلى هذا الواقع من دون تحديد مسؤولية اللاعبين الأساسيين وفي المقام الأول واشنطن وموسكو. تراكم فشل الولايات المتحدة في أدائها السوري منذ 2011 إذ لم يكن الملف السوري يوماً أولوية على أجندة واشنطن (باستثناء صلته بأمن إسرائيل) وراهنت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عبثاً على أن روسيا ستواجه في سوريا أفغانستان أخرى، وكانت تهادن في سوريا نظراً إلى تركيزها على “صفقة عصر أوباما” مع إيران.
من جهته عزز التدخل العسكري الروسي ميدانيّا وضعَ نظام الأسد، وجعل روسيا الطرف الدولي الرئيسي هناك سياسيا وميدانيا. وبينما كانت المحاولات الدبلوماسية لحل الحرب في سوريا خلال عهد الرئيس أوباما تتركز على “عملية جنيف”، نجحت روسيا في جعل سوتشي وأستانة بديلا عن جنيف.
برهن هذا التحول على عدم وجود سياسة أميركية واضحة تجاه النزاعات في سوريا خلال عهد باراك أوباما، ولا تبدو القراءة أيسر مع المواقف المتناقضة التي يتخذها الرئيس دونالد ترامب، والتي تحاول المؤسسات الأميركية تقنينها أو إعادة صياغتها لأنها ستنعكس على النزاعات الأخرى في المنطقة.
وهذا التخبط الأميركي يفسر إلى حد كبير المعضلة التي تواجهها واشنطن في سوريا، لأن هذا النزاع هو الذي سيقرر كيفية تعامل إدارة ترامب في الشهور المقبلة ليس فقط مع سوريا، بل أيضا مع تركيا وإيران وروسيا والأكراد. ولذا وبالرغم من قرار البيت الأبيض الانسحاب من سوريا، توصل المعنيون في واشنطن إلى بلورة توافق يقضي بأن الإخلاء الكامل للقوات من سوريا يعني أن الولايات المتحدة قد خسرت كل شيء في سوريا، وأن روسيا وإيران وتركيا سوف تقرر مستقبل سوريا.
يبرز هذا التوجه المرحلي الأميركي في التصريحات الأخيرة للسفير جيمس جيفري، ممثل وزير الخارجية الأميركي الخاص إلى سوريا، عن مسار أستانة الذي “لم يحقق أي نتيجة خلال عام ونصف العام من انطلاق أولى جلساته”، ولفت جيفري إلى أن “مجموعة أستانة لم تستطع إقناع ‘النظام السوري الشيطاني’ بالتقيد بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015″. وأوضح أن الحل في سوريا يتمثل في “تخفيض حدة التدخل العسكري”، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق ذلك وفي ما يشبه خارطة طريق مبدئية، حدد المسؤول الأميركي أنه بعد تحقيق تقدم في الهزيمة النهائية لتنظيم داعش، يتطلب الأمر الآن تنشيط العملية السياسية وفق مسار جنيف بعد فشل المسار الآخر.
لا يمكن فصل هذا السياق عن جهود واشنطن في التفاوض مع أنقرة حول “تفاصيل المنطقة الآمنة” مع إعطاء وعد للجانب الكردي السوري يتمثل في اعتبار “قوات سوريا الديمقراطية” جيشاً ممثلاً للشعب السوري، واشنطن كما دول أوروبية وروسيا تريد إعادة بناء الجيش السوري وضم الأكراد إليه.
وفي مرحلة ما بعد هزيمة داعش في الباغوز تتفاوض واشنطن مع حلفاء أوروبيين على نشر قوة دائمة للتحالف الدولي في التنف وشرق سوريا. من خلال هذا الوجود العسكري المباشر والحليف ستستخدم واشنطن هذه الورقة بالإضافة إلى سلاح العقوبات وإعادة الإعمار للتأثير على موسكو ولعب دور أساسي في صياغة المستقبل السوري على المدى القصير والمتوسط.
ومن دون شك ستكون مسألة الوجود العسكري والأمني الإيراني محور مناورات وتجاذبات الشهور القادمة وليس من المستبعد أن تعمل إسرائيل على تسهيل تفاهم أميركي – روسي في سوريا على حساب طهران. ويمكن لهذا السيناريو أن يؤجج مواجهات ويخلط بعض الأوراق. من جهة أخرى يخفي اختبار القوة حول إدلب صراعا أميركيا – روسيا حول تموضع تركيا حيال مجمل المسألة السورية والإقليم.
تشهد تصفيات “الحروب السورية” على تعقيدات إضافية للعبة الأمم (اللعبة الكبرى الجديدة للقرن الحادي والعشرين انطلاقاً من المشرق) ولم يسبق وصول التخبط الدولي إلى هذا المستوى من الاحتدام والعجز في سياق الاضطراب على عدة مسارح دولية أخرى من إيران وليبيا إلى أوكرانيا وسريلانكا وفنزويلا.