استبق أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله قبل سنوات، أي طرح يتعلّق بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا. كان نصر الله يومها يتحدث عن تغيير المعادلات الاستراتيجية في المنطقة وتغيير قواعد الاشتباك. فكان خطابه تتويجاً لمسار قتال عناصر الحزب في سوريا، معلناً توحيد الجبهات ودمجها ببعضها البعض. كان نصر الله يتحدث عن آفاق المواجهة مع العدو الإسرائيلي، وكان الخطاب في مناسبة تأبين جهاد مغنية نجل المسؤول العسكري في الحزب عماد مغنية. اغتيل مغنية الإبن في محافظة القنيطرة في الجنوب السوري، فأسقط السيد يومها قواعد الاشتباك القديمة، مرسياً قواعد جديدة ترتكز على ضربة مقابل ضربة في اطار توازن الردع مع الاسرائيليين.
أرض متنازع عليها
رد حزب الله على عملية الاغتيال هذه، في مزارع شبعا. ويومها اعتبر الحزب أن الردّ لا يستدرج أي رد من الجانب اللبناني، باعتبار أن العملية وقعت في أراض متنازع عليها. ليس أصرح من ذلك يومها، للتأكيد على مسألة عدم حسم قضية مزارع شبعا، وضياعها بين لبنانيتها وسوريتها. وإذا أضيفت هذه المعادلة إلى معادلة إسقاط قواعد الاشتباك وتوحيد الجبهات، فإن ذلك يقود الى خلاصة واحدة موحدة، هو أن المزارع باعتراف الجميع، او على الأقل وفق تعاطي الجميع السياسي والعسكري والجغرافي، هي نطاق متنازع عليه، ويمكن استخدامه كساحة لتصفية الحسابات وتحسين شروط التفاوض. وعلى إثر الرد الذي نفذه الحزب باستهداف جرافة اسرائيلية، كانت تتوالى التطمينات من قبل المسؤولين الحزبيين بأن الرد الإسرائيلي يومها لن يطال لبنان، بل سيطال النطاق الجغرافي السوري حيث حصلت العملية.
في خطابه ليل الخميس، اعتبر نصر الله أن مزارع شبعا لبنانية، وباعتراف الدولة اللبنانية، وفق مندرجات الحوار والبيانات الوزارية، وكأنه يردّ على مضمون خطاب الحزب في العام 2015. لكن القضية الأساسية ليست في هذا النطاق فقط. لا سيما أن نصر الله شدد على التمسك بلبنانية المزارع، من بوابة البديهيات، من دون اللجوء إلى تقديم الإثباتات، أو بالحد الأدنى الإشارة إلى استعداد الحزب للمساعدة مع حليفه النظام السوري لتحديد الحدود، وتثبيت لبنانية المزارع أمام الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
تعاطى نصر الله مع الموضوع، من جانب الفروض الواجب على الجميع الالتزام بها. وهذا منطق لا يستند إلى إثبات لبنانية المزارع، إنما الى تعميم منطق وحيد، وهو الالتزام بما يأتي من فروض من دون نقاش، خصوصاً عندما تتعلق هذه الفروض بدور المقاومة ووظيفة السلاح. وهو قال إن حزبه عازم على تحرير المزارع، بغض النظر عن مواقف بعض الأفرقاء، والذين يدخلون وفق تعبيره في الحرب النفسية الممارسة على لبنان واللبنانيين. ووفق منطق توحيد الجبهات بين سوريا ولبنان، اعتبر نصر الله بمضمون كلامه أن لا مجال للدخول في الترف الفكري حول تثبيت هوية المزارع. وهذا المنطق يتلاءم مع منطق النظام السوري بعيد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب في العام 2000، وينسجم مع كلام قاله وزير خارجية إيران في العام 2007، لدى زيارته للرئيس فؤاد السنيورة في السراي الحكومي، معتبراً انه يجب تحرير الأراضي، وفيما بعد يتم الاتفاق على تثبيت هويتها وانتمائها الجغرافي.
توحيد الجبهات
ولكن منطق توحيد الجبهات بالنسبة الى حزب الله لا ينطبق على مزارع شبعا فقط، بل هو توسيع لمفهوم دخول حزب الله إلى الميدان السوري والقتال هناك. بداية للدفاع عن القرى اللبنانية داخل الاراضي السورية، وتالياً لحماية المراقد. وهذه حقيقة أصبحت واقعة بفعل دمج المناطق المتداخلة لبنانياً وسورياً على طول الخط الحدودي شرقاً، فعمل الحزب على توحيد الجبهات والمواقع العسكرية ما بين السلسلة الشرقية ومناطق القلمون السوري، انطلاقاً من المصنع شمالاً باتجاه جرود الهرمل والمناطق المطلة على القصير وريف حمص. وهذا المنطق نفسه ينطبق على ما قاله حزب الله، بعيد زيارة قائد عصائب أهل الحق العراقية، قيس الخزعلي، إلى جنوب لبنان وإعلانه الاستعداد للمشاركة في أي معركة قد تندلع مع العدو الإسرائيلي. ويومها أعلن نصر الله أن الحدود أصبحت مفتوحة بين لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى إيران، في مواجهة اسرائيل، وبأن هناك آلاف المقاتلين من الحشد الشعبي العراقي الجاهزين للمشاركة في المعارك. ما يعني اسقاط مفهوم الدولة الوطنية لصالح اتحاد فدرالي عربي ايراني.
الرد على جنبلاط
وفق هذا المنطق ربما، لم يحتج نصر الله للتشدد في مسألة اثبات لبنانية المزارع، ربما لأنه يتعاطى مع الأمر وكأن الجغرافيا واحدة، والجبهة موحدة من بيروت إلى طهران، ولا حاجة لترسيم الحدود الوطنية للدول. فتضيع هوية المزارع بين القبائل كما هو حاصل بالنسبة إلى الجولان، وإلى مناطق أخرى في شرق سوريا، لا سيما في شرق الفرات، أو في الشمال السوري ما بين إدلب واعزاز والباب وعفرين.
وما ساعد نصر الله على إطلاق موقفه بهذا الشكل، والذي يركز من خلاله الردّ على وليد جنبلاط، وصولاً إلى محاولة محاصرته أو تركه يغرّد وحيداً خارج السرب، هو عدم بروز أي موقف لبناني تضامني مع جنبلاط من حلفاء الأمس وخصوصاً القوات اللبنانية وتيار المستقبل، ما اتاح لنصر الله أن يفرض ما يريد وفق خطابه، والذي اتسع أفقه الى حدود وضع شروط ونقاط تتعلق بالموازنة وآلية اقرارها، والتركيز على وجوب تقديم التنازل من قبل المصارف، بشكل يتعارض مع رؤية الرئيس سعد الحريري، الذي سيجد نفسه في النهاية خاضعاً لمطالب وشروط الحزب كما درجت العادة.
اللعبة نفسها
بالتأكيد، إن موقف نصر الله من المزارع، وإعلانه استمرار الحزب لتحريرها عسكرياً وتوجيه التهديدات للإسرائيليين، هو سبيل جديد لتوكيد حزب الله استمراره على مساره، سواء للاحتفاظ بالسلاح، او لإبقاء المعارك معلقة مع العدو الاسرائيلي ومع المجتمع الدولي، خصوصاً بما يتعلق بترسيم الحدود، بعدما اعتبر ان لإسرائيل مطامع جغرافية بالأراضي اللبنانية.. لكن أيضاً لهذا الكلام وجهه الآخر، والذي يتعلق بأن عدم انجاز الترسيم مع العدو الإسرائيلي، وإن كان وفق الشروط اللبنانية لن يحصل من دون الترسيم مع سوريا. وهذا من شأنه أن يطيل الصراع وآفاق البازار، خاصة إذا ما استعاد المرء بذاكرته مواقف النظام السوري بعيد إعلان اسرائيل الاستعداد للإنسحاب من جنوب لبنان في العام 2000، الأمر الذي اعتبره أركان النظام في سوريا بأنه مؤامرة، ولا يمكن لإسرائيل ان تنسحب من دون التفاوض مع سوريا ولبنان، ما يشير بأن ابقاء المزارع معلّقة حاجة للنظام السوري، لإبقاء الاستثمار بالورقة الحدودية وبالقتال ضد العدو وبتبرير بقاء الجيش السوري في لبنان حينها. اليوم هذا المنطق يتكرر باختلاف اللعبة واللاعبين، والتي اصبحت في خانة ابقاء السيطرة على الوضع في لبنان، واستخدامها كورقة تفاوض بوجه الضغوط التي تتعرض لها إيران.