وفهم اللبنانيون من تصريحات كبار المسؤولين التي قيلت بعد الثقة ان ما قصدته الحكومة بهذا الإصلاح يتمحور حول أمور ثلاثة: محاربة الفساد المستشري، سد كل مزاريب هدر المال العام، واستعادة الأموال المنهوبة من الدولة على مدى السنين الغابرة، واعتبر هؤلاء المسؤولون الكبار ان هذه الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي لكي يحصل لبنان على المساعدات المالية الكافية ليعود ويقف على رجليه وفق ما يقول المثل اللبناني المعروف، ليست وحدها ولن تكون نهاية المطاف بل سيتبع ذلك إقرار سياسة مالية تقشفية على كل المستويات بهدف خفض الدين العام الذي تجاوز الحدود المسموح بها دولياً وتحفيز النمو المتراجع عبر السنوات الماضية، لأسباب كثيرة ورفع معدلاته من تحت الصفر إلى اثنين أو ثلاثة بالمئة كخطوة أولى ستتبعها خطوات لاحقة إلى ان يصبح النمو طبيعياً.
وخلال فترة السماح التي منحت لحكومة «الى العمل» أو لحكومة العهد الأولى كما رغب رئيس الجمهورية في تسميتها، ردد كبار المسؤولين الكلام نفسه عن تصميمهم على الإيفاء بالتزاماتهم كلها عندما تصبح الموازنة جاهزة لعرضها على المجلس النيابي وقد بادر المجلس إلى ردّ التحية بأفضل منها عندما وافق على طلب الحكومة اعطائها بعض الوقت الإضافي لإنجاز موازنة متكاملة مبنية على الوعود التي اطلقها هؤلاء المسؤولون من جهة ولتلبي من جهة ثانية متطلبات حتى لا نقول شروط المجتمع الدولي.
لكن كل هذه الوعود والعهود ما لبثت ان تساقطت عندما عكفت الحكومة في جلسات متتالية لمجلس الوزراء على درس الموازنة، وأخذ بعض الوزراء يسربون عن عمد أو عن غيره ما يجري داخل جلسات المجلس من مناقشات، بحيث تبين ان الموازنة كما اعدت لا تتضمن أي من هذه الإصلاحات التي يتحدث المسؤولون عنها، فلا يوجد في اوراقها الألف والمائتين أي بند يتحدث عن الفساد وعن كيفية محاربته واجتثاثه من جذوره في كل دوائر الدولة ومرافقها العامة، ولا هي وضعت أي خطة لوقف مزاريب هدر المال العام أو لاستعادة الأموال المنهوبة من الدولة ولا هي أيضاً تطرقت مثلاً إلى إصلاح قطاع الكهرباء الذي تعوّل عليه كثيراً الدول التي تريد مساعدة لبنان لتجاوز المصاعب الاقتصادية والمالية بعدما ثبت لديها ان هذا القطاع يستنزف مالية الدولة لتستقر في الجيوب، بدلاً من ان تستقر في الموازنة العامة وتخفض العجز الحاصل فيها والذي يهددها بالافلاس العام بل ركزت على موارد أخرى لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بوقف الهدر العام وسد كل مزاريبه تحت عنوان التقشف، واغفلت كل المزاريب الاخري التي كانت السبب الرئيس في إيصال العجز إلى هذا المستوى المرفوض دولياً، وليست الاشتباكات والتجاذبات السياسية التي شهدها اللبنانيون في الأيام الثلاثة الماضية بين وزير المالية الذي اعد الموازنة وبين وزراء ينتمون إلى كتل نيابية وإلى اتجاهات مختلفة سوى دليل قاطع على مدى قصور هذه الحكومة، في معالجة هذه الأزمة الصعبة والخطرة في آن، وعلى مدى قفزها فوق مقتضيات المصلحة الوطنية العامة، مما يؤشر إلى انه لا توجد نيّة صادقة عند المسؤولين الكبار عن إدارة شؤون البلاد والعباد في اصلاح الحال وإخراجه من وضعه السيئ إلى الوضع الطبيعي كما هي حال بقية الدول التي تحترم نفسها وشعبها في آن معاً.