تكمل زيارة وزير الدفاع، الياس بو صعب، إلى جرود عرسال، عناصر الصورة التراجيدية. عسكر متقاعد في الساحات يدافع عن حقوقه، ويطالب بإبقاء امتيازاته و"حوافزه" المالية والرعائية، رفضاً لأي محاولة مساس بها، وهذا حق بطبيعة الحال. ووزير للدفاع يلقي السلام على عسكر في خدمته وآخر محال على التقاعد، مقدّماً اعتذاراته عن الخطط المالية، التي قد تنال من حصص العسكريين المتقاعدين. هكذا تكتمل حلقات السلسلة. موظفو القطاع العام وأساتذة المدارس الرسمية يطالبون بالحفاظ على مكتسباتهم، فيتعطّل البلد بمؤسساته الإدارية والتربوية لأيام وأسابيع. وعسكريون متقاعدون مع عائلات عسكريين مازالوا في الخدمة والسلك، يتظاهرون للمطالبة بالحقوق والدفاع عن المكتسبات. وهم قادرون على تعطيل البلد وعرقلة مرافقه.
وحدهم العمّال يغيبون عن فعل التأثير، حيث لا نقابات ولا روابط عمّالية، قادرة على الحشد والتأثير.
دور العسكر والموظف العمومي
تحتاج السلسلة إلى حلقة أخيرة، هي التكامل بين السياسة والمال، المكوّنة من المصارف وأصحاب النفوذ والسلطة. فيقع البلد محكوماً بهذا الثلاثي، موظفو القطاع العام وأساتذة وزارة التربية، والعسكريون، وأصحاب السياسة والمصارف. تعتبر الحلقة الأولى من السلسلة، حديثة النشأة لجهة التأثير في المجريات اللبنانية. إذ أن نشأة لبنان ترتكز على قطاع المال والأعمال (الشركات الخاصة) المتلازم مع السياسة. ولضمان استمرارية هذا القطاع في تحكّمه، كان لا بد من توفير الأمن له، نزولاً عند نظرية الارتباط بين الأمن والإقتصاد. فكان لا بد من تعزيز دور العسكر لاكتمال شروط التركيبة، والتي توجب منح العسكريين حوافز هائلة وضمانات غير موجودة في أي مؤسسة رسمية أخرى.
بعد أزمات متلاحقة تعرّض لها الاقتصاد اللبناني، كان لا بد من تعزيز القطاع الحكومي، فأصبح الطموح العمومي يتجلى في البحث عن فرصة عمل حكومية، نظراً للضمانات التي توفرها، بالإضافة إلى الطموح الأبعد قليلاً، أي نيل وظيفة في القطاع المصرفي. وعلى إثر تلك الأزمات جرى تعزيز القطاع البيروقراطي الرسمي، لأسباب متعددة، أبرزها توفير مصادر مالية ومعيشية للناس، من جسم الدولة، بشكل لا تُحمّل تلك الأعباء وضماناتها إلى أرباب القطاع الخاص. وبذلك تحوّلت المؤسسات الرسمية للدولة، عسكرية كانت أم مدنية، كمتنفس يخفف الأثقال عن كواهل تجمّع رؤوس الأموال أو الزعامات المالية والطائفية، فشكّلت الدولة بديلاً ورافداً لتعزيز الزعامات عبر الخدمات الوظيفية وغير الوظيفية.
وهذا أدى إلى تخمة كبرى في القطاع العام بلا أي إنتاجية، ما تسبب بشكل مباشر في تنامي العجز. استطاع الموظفون والمعلّمون فرض ما يريدونه من مطالب تتعلق بسلسلة الرتب والرواتب مثلاً، قبل الانتخابات النيابية، ليأتي الصراخ بعدها، بشكل لا يطالهم فقط، بل يطال أبناء المؤسسات الأمنية والعسكرية، مع البحث عن مخارج تقشفية للموازنة العامة في البلاد.
وللعسكر قوّة في المجتمع اللبناني، بمعزل عن القوة على الحدود والجبهات أو في المعارك. نقطة القوة الأولى، هي في البعد السوسيولوجي للشعب اللبناني، انطلاقاً من نقطتين أساسيتين، الأولى أن القوى الأمنية والعسكرية مؤلفة من جماعات وطوائف مختلفة، وبالتالي الدفاع عن حوافزها وحقوقها مسألة لا تنطوي على تهديد سياسي أو طائفي، بالنسبة إلى أي جماعة من الجماعات، وهذه تمثّل عامل وحدة واتحاد. والثانية، هي أن لبنان أشبه بلاجئ إلى الإحتماء بالعسكر، وما يرمز إليه من وجود للدولة، بعد سنوات تشتتها وتحارب قواها. وإلى جانب البعد السوسيولوجي، ثمة بعد سياسي شعبي وشعبوي، قادر على تحقيق ما يريده العسكريون متقاعدون أم حاليون من شروط وفروض.
وحدهم العمّال غير قادرين على تحقيق ذلك.
الحقوق والحوافز
وفيما يجري النقاش بموازنة عامّة، ثمة "احتمال" غير واضح فيها، للبحث بإمكانية اقتطاع بعضاً من مخصصات عناصر المؤسسات الأمنية، تنتظم تظاهرات وتحركات واحتجاجات استباقية رفضاً لذلك "الاحتمال". وهذا فيه أيضاً بعد سوسيولوجي وسياسي، ينطلق من الرهان على الشعبوية، التي توفرها شعارات الدفاع عن المؤسسة العسكرية الحامية للبنان، والتي لا بد من تعزيز أبنائها، حماة الوطن، بإعطائهم تدابير عديدة بينها التدبير رقم 3 مثلاً، وعدم الاستعداد للبحث بالتدبير رقم 2 أو 1، لأنه يخفض منسوب القوى العسكرية التي تخدم على الحدود الجنوبية والشرقية والشمالية، دفاعاً عن البلاد، بمواجهة العدو والإرهاب.
لا شك أنه من حق أي مواطن أو موظف أو عسكري، أن يطالب دولته بتعزيز أوضاعه المعيشية والتعليمية والصحية، وزيادة الحوافز ومنسوب الرفاهية. وهذا حق للموظفين كما لكل العمّال، لكن مصيبة لبنان أنه ابتلي بموظفين من خارج القطاع العماّلي المنتج. وميزة العسكريين أنهم يتضامنون مع بعضهم البعض متقاعدين وحاليين، عساكر وضباط، جنوداً ورتباء، للدفاع عن حوافزهم. بينما يغيب هذا التضافر عن العمّال مثلاً، أو السائقين العموميين أو غيرهم. وهذا الترهل العمالي أو النقابي، يعود إلى جوانب أساسية من جوانب تكوين السلطة وتفريغ مقوماتها، بحيث تكون سلطة على الرعية، لا ترعى الرعية.
وكما كان لا بد من تعزيز حوافز الأمن والعسكر لحماية الاقتصاد والاستثمار، ثمة جوانب أخرى تدفع إلى تعزيز حوافز العسكر والضباط، هي برفع منسوب مقومات الرفاهية التي تؤمنها الدولة، كالمعاش التقاعدي بموازاة التعويض، وما يتعلق بسنوات الخدمة، وغيرها من حوافز للضباط كالرواتب أو المخصصات الخيالية، التي يحصل عليها الكبار منهم. وهذه رغم أحقيتها ربما، فيها تعويض عن شعور بالنقص معّين، تسببت به التركيبة اللبنانية، التي تسهم في إضعاف الدولة لصالح المؤسسات الطائفية أو المذهبية. ولأن الجيش أو أي مؤسسة أمنية أخرى غير بعيدة عن هذه التركيبة، فهو عند أول انقسام أو اضطراب كبير، كانت يجد نفسه قابلاً للتفكك أو الانشقاقات، في أزمنة الحرب، أما في أزمنة السلم، وعرضة للتجاذبات السياسية والطائفية، سواء بما يخص التعيينات، أو حتى المنازعات بين القوى السياسية على ملفات أخرى، فتقتطع المخصصات السرية مثلاً عن إحدى المؤسسات الأمنية كثأر سياسي أو مناكفة طائفية. وهذا ما يمثّل طعناً معنوياً للأمنيين والعسكريين. وكما نعرف فإن المرتكز المعنوي بالغ الأهمية في تماسك المؤسسة وفي ضمان تفوق أدائها. وبما أن ذلك يغيب، يأتي التعويض عنه بتلك الحوافز وبرفع مستوى الرفاهية، مالياً وخدماتياً.
الجرح المعنوي
وبالنظر إلى أصل المشكلة وعمقها، فإن هذه الحوافز، تأتي بدلاً عن ضائع، من الناحية المعنوية والثقة والواجب، لا فقط بسبب تركيبة النظام اللبناني، بل أيضاً بسبب الجغرافيا السياسية وعواملها التي ضربت هذه المؤسسات على مرّ عقود، منذ اتفاقية القاهرة في العام 1969، إلى يومنا هذا. فالسلاح الفلسطيني وسلاح الحركة الوطنية، كانا هما "المقاومة بمواجهة العدو" مقابل تهميش السلاح الرسمي، وسلاح "الجبهة اللبنانية" كان للدفاع عن الدولة والسيادة، ولم تناط هذه المهمة بالجيش وحده، خصوصاً بعد تعرضه لحركة انشقاق عام 1976. ثم كان استمرار "المقاومة" إلى يومنا هذا حصراً بـ"حزب الله". كل هذا من شأنه أن يطال معنويات الجيش ويكسفها، ويمثّل جرحاً عميقاً في نظرته إلى نفسه، تماماً كما كان واقع الحال أيام وجود الجيش السوري في لبنان. كل تلك الضربات كان لا بد من التعويض عنها، بـ"نفخ" معنوي كبير بالمؤسسة وعناصرها، وبزيادة التحفيزات والمقومات.
سينجح العسكريون في الدفاع عن مستحقاتهم، وليس تحركهم بحجمه واتساع رقعة انتشاره، إلا دليل على القدرة على النجاح، خصوصاً في ظل مواقف سياسية لقوى متعددة، داعمة لمطالبهم، وطالما أن جزءاً واسعاً من التركيبة السلطوية، السياسية والدستورية، ترتكز على ضباط سابقين. فليس تفصيلاً أن يشارك أعضاء في البرلمان، وهم ضباط سابقون في هذه التحركات، ولا يمكن الغياب عن وجود رئيس للجمهورية كان قائداً للجيش، كما من قبله ثلاثة رؤساء. لن تكون هذه التحركات عادية، ولن تخيب آمال القائمين بها. لكن لا شك أن ثمة أبعاداً لا بد من تسجيلها سياسياً واجتماعياً، في ظل المزايدات الشعبوية، والتي ستؤدي في النهاية، ليس إلى الضغط على الحكومة أو ساستها لتطويعهم فقط، بل الخشية من أن يتحول ذلك، إلى عسكرة رمزية للمجتمع، تؤدي إلى نتائج سياسية وخيمة.. بقرارات تتخذها حكومة مدنية، لكنها تُقرأ بكتاب عسكري.