الإشارات التي تَرشَح عن القوى النافذة داخل الحكومة توحي بأنها فشلت في ملف الإصلاح والاستجابة لمتطلبات مؤتمر «سيدر». وعندما تُسأل هذه القوى عمّا تتوقعه مع بدء مناقشة الموازنة في مجلس الوزراء تجيب: لا نتوقّع النجاح في إنقاذ الوضع المالي. وكل طرف سيحاول أن يقول: أنا قمت بواجبي والمتبقّي اطلبوه من الآخرين!
وهكذا، فإنّ الموازنة - حتى في تقدير الذين صنعوها- ليست سوى لعبة أرقام. وأما الإنقاذ الاقتصادي والمالي المطلوب فهو أبعد منها. ومن حقّ الجهات المانحة أن تشكّك في جدّية الحكومة اللبنانية في السير بالتدابير الإصلاحية المطلوبة.
في الأوساط القريبة من الوزير جبران باسيل يتردّد أنّ لبنان لا يحتاج إلى هذا المقدار من الدعم الخارجي إذا التزم خطة إصلاح حقيقية. وهذه الخطة يجب أن تتضمن جباية الضرائب بنحو عادل وتحصيل واردات أكبر من الشركات والمؤسسات التي تحقق أرباحاً طائلة، ولاسيما منها القطاع المصرفي القادر وحده على ضخّ الدولة بما يصل إلى بضعة مليارات دولار سنوياً.
كذلك تتطلّب الخطة مباشرة في عملية تنظيف حقيقية للرواتب في موظفي القطاع العام. وهذا ما قصده باسيل عندما قال: «إذا لم نلجأ إلى الاقتطاع من الرواتب، فقد يصبح متعذراً دفع الرواتب لأيّ كان».
ولكن، في رأي الأوساط، يبدو أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري راغب في رمي المسؤولية عن كاهله. فهو فضّل إرضاء المصارف ولم يقترب من الفئات الغنية، كذلك تنصّل من التخفيضات على رواتب القطاع العام، علماً أنّ الجميع أقروا مسبقاً بهذه التدابير. ويوحي الكلام الذي يتردّد في بعض أوساط «التيار» أنّ الحريري يتصرّف شعبوياً.
طبعاً، في الأوساط القريبة من الحريري بدأ يقال كلام لم يُسمَع قبلاً. ففي العادة، بين رئيس الحكومة ووزراء «التيار الوطني الحر» كان هناك تفاهم دائم. واليوم بات يقال في البيئة الحريرية إنّ الإشكال الأكبر المتعلق بالإصلاح ربما يكون في الوزارات التي يتولاها «التيار الوطني الحر».
وتعبِّر الأوساط القريبة من الحريري عن شعور متزايد بالضغط في عهد الرئيس ميشال عون. فرئيس الحكومة أبرمَ الصفقة مع عون قبل 3 سنوات على أساس أنها متوازنة، ولكن، مع الوقت يبدو أنّ عون وفريقه السياسي يزدادون قوة وإمساكاً بزمام الأمور، فيما يبدو الحريري وكأنه أصبح الحلقة الضعيفة في السلطة.
ولذلك، يسأل بعض المتابعين: هل فعلاً بات الحريري راغباً في التحرّر من ضغط عون وباسيل، خصوصاً في ظل ازدياد علامات الانهيار، لئلّا يتحمل تبعات السقوط الآتي؟ أم انّ عون هو الذي يمارس أقصى الضغوط على الحريري لتحميله المسؤولية عن هذا السقوط، وتالياً عن فشل العهد بكامله؟
يقول هؤلاء: عندما جرت صفقة عون - الحريري في العام 2016، لم تكن الدولة في وضعية انهيار وشيك، وكانت مساعدات الجهات المانحة تغطي حال الاهتراء وتؤجّل السقوط.
ولذلك، استفاد الجانبان من مساحة «البحبوحة» المتبقية للمشاريع… وسمحت القوى الشيعية بالصفقة لأنّ حصتها محفوظة في المواقع والمشاريع والاستراتيجيا.
واليوم، وصلت الدولة إلى الانهيار، فانكشف كل شيء، وربما يجد البعض أنّ أحد المبرِّرات الأساسية للصفقة قد سقط. ولأنّ «القِلَّة تولِّد النقار»، ينمو التوتر بين أركان السلطة بنحو مطّرِد، مع رغبة الجميع في إبقاء هامش التوتر مضبوطاً، وعدم بروزه بقوة إلى السطح.
وهناك استحقاقات تنتظر الجميع بدءاً من اليوم، مع بدء مناقشة بنود الموازنة. فالوقت ضيق جداً لإقرارها في مجلس النواب، خلال هذا الشهر، وإجراءات التقشف الواردة تبقى هزيلة أمام الحجم الهائل للعجز… ما يعني أنّ الإجراءات الحقيقية الفاعلة ما زالت قيد الكتمان، ولا أحد يجرؤ على طرحها إمّا لضرورات شعبوية، وإمّا لأنها تترجم مصالح الكبار والنافذين.
ويخشى الجميع نمو حركات الاعتراض من فئات مختلفة، ولاسيما منها العسكريين، بحيث تتحوّل كرة ثلج يصعب ضبطها. ولا يرغب أحد في إحراق أصابعه. لذلك، تعمل القوى كلها على التنصّل من أي إجراء يثير ردود فعل سلبية في الشارع، تاركة لعامل الوقت أن يأخذ مداه فيتم «تبليع» الأمور للناس تدريجاً.
لكنّ الوقت يضغط كثيراً. والمهلة المعطاة للبنان كي يبرهن التزامه الإصلاح انتهت تقريباً، والجميع بات في مواجهة مع ساعة الحقيقة. وفيما يبدو الفريق الشيعي في السلطة هو الأبعد عن المواجهة لأنه يعرف حصته وحدوده مسبقاً، تقع المواجهة خصوصاً بين الطرفين المسيحي والسنّي.
البعض يعتقد أن لا مصلحة لـ«التيار» إطلاقاً في تطيير التسوية والحكومة - إذا كان يمتلك القدرة - لأنّ ذلك يشكل خسارة فادحة للعهد. كما أنّ الحريري ما زال يتمسك بالتسوية لأنها السبيل الوحيد إلى بقائه في السراي الحكومي.
ولكن، إذا وصل الجميع إلى مأزق الانهيار وساعة الحقيقة، وشعر أحد الأقوياء بأنّ خسائر التسوية الحالية باتت أكبر من أرباحها، فليس مستبعداً أن يقلب الطاولة بما فيها من أوراق، لعلها تفرز معطيات ومعادلات جديدة.