يعترف الجميع أنّ البلد بماليته واقتصاده ومعيشته لم يعد يتحمّل ما بلغه الهدر في المال العام والفساد الذي ينخره في كل مفاصله، وأنّ المعالجة واجبة الوجد بل حتمية، فالدين العام يشارف على رقم المئة مليار من الدولارات، وجيوب كثيرة من كل المستويات انتفخت الى حد انفجارها بالبلد، والشكوى لم تعد لغير الله مذلّة، كما كانت الحال حتى الأمس القريب عند اللبنانيين نتيجة قلة الحل، بل باتت عارمة والجميع يتهم الجميع بالتسبّب بالكارثة التي يخشى وقوعها.
لذلك، بدأت ترتفع الاصوات الداعية الى «استعادة المال العام المسروق»، وجَلب المتورطين الى التحقيق على قاعدة استعادة مال سُرق أو سُطِيَ عليه.
وأول من نادى باستعادة «المال المسروق» كان رئيس الحكومة السابق سليم الحص عند تولّيه رئاسة الحكومة خلال العامين 1999 و2000 واتهم بعض المسؤولين الكبار بالتورّط في الفساد وبناء محميّات له. فيما رويَ، ولا يزال هناك كثير من التفاصيل عن فساد متماد وهدر في المال العام.
وفي الآونة الاخيرة نادى الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله بضرورة استعادة المال المسروق في الوقت الذي شرع نواب الحزب في فتح ملف الفساد والعمل على مكافحته ضمن أطر العمل النيابي الرقابي وعبر القضاء، بحيث انّ الحزب يعتبر هذا الملف اولوية بالنسبة اليه خصوصاً بعدما قرر إثر انتخابات 2018 الانخراط أكثر فأكثر في العمل العام ضمن الدولة.
ومنذ اسابيع لا يخلو يوم من دون طرح ملف او صدور مواقف تنادي بمكافحة الفساد، في موازاة خطاب بهذا المعنى يلتزمه اركان الدولة، وحراك في الشارع يعكس نبض الناس الذين يعبّرون عن توق للخلاص من الفساد والذي يدفعون وحدهم ثمنه، فيما يرون أرصدة ترتفع وانتفاخ جيوب كثيرين ممّن دخلوا «جنّة» السلطة او حَظوا بالتغطية والنفوذ من المستوى الوظيفي الادنى الى الاعلى (وكل الناس يعرفون بعضهم بعضاً في هذه المدينة او الحي او البلدة او حتى القرية وكيف كان هذا وكيف أضحى ذاك». وكيف انّ بعض «أولاد الدولة» (أي من الموظفين) يتنعمون ويَغتنون فجأة بلا حسيب أو رقيب، ولا أحد يسألهم من أين لكم هذا.
وفيما بعض السياسيين والمسؤولين المعنيين المتفائلين بإمكان السير في مكافحة جدية للفساد، على قاعدة «لنبدأ من هنا من دون النظر إلى الماضي، لما يرتّبه ذلك من مشكلات وتعقيدات»، فإنّ شرائح واسعة من اللبنانيين على اختلاف فئاتها ومشاربها ليست لديها أوهام في أنّ المعالجة ستكون بهذه السهولة، لأنّ المتورطين كثر ولديهم كثيراً من إمكانات التعطيل والإعاقة، فضلاً عن قدرتهم على حماية بعضهم لبعض.
ولذلك، يعتقد معنيون انّ ما بدأ يطرح من ملفات في غير زمانها ومكانها، وعلى نحو يثير الاستغراب، يعكس انّ المتضررين من مكافحة الفساد قد بدأوا هجوماً وقائياً واستباقياً لخشيتهم من انّ النار ستطاولهم، ولأنّ القوى المنخرطة في مكافحة سرقة المال العام هي قوى جدية لا يمكنها المهادنة في هذا الصدد لأنها تنضم في هذه الحال الى عصبة المتورطين لأنّ «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
وفي هذا الصدد يقول قطب نيابي انّ القضاء سيكون المكان الرئيسي والطبيعي للتصدي لكل ملفات الفساد التي ستُحال اليه تباعاً، فإنّ سفن الموازنة العامة لهذه السنة التي يراد لها ان تكون إصلاحية ورشيقة للاستفادة من قروض «سيدر» البالغة 11 مليار دولار، يبدو انها تسير عكس رياح عاصفة مكافحة الفساد، إذا جاز التعبير، فهي ستمكث في مجلس الوزراء بدءاً من اليوم لنحو أسبوعين درساً وتدقيقاً وأرقاماً قبل إحالتها الى مجلس النواب، ما يعني أنّ شهر أيار الذي كان يتوقع كثيرون أن تقر الموازنة خلاله سينقضي من دون أن تقر في مجلس النواب، فيما مهلة الإنفاق الجاري وفق القاعدة الاثني عشرية تنتهي قانونياً في ختامه، وما يعني ايضاً انّ الموازنة قد لا تبصر النور قبل حزيران او تموز المقبلين، أي على مسافة أقل من شهرين عن ايلول الذي يفترض ان تقدم الحكومة خلاله موازنة 2020 لتقرّ وتصبح نافذة في خلال العقد التشريعي العادي الثاني الذي يبدأ أول ثلثاء بعد 15 ايلول وينتهي في 31 كانون الاول، اي نهاية السنة.
فهذه الموازنة مربوطة، أو يربطها المعنيون، بملف مكافحة الفساد، لكون انها ستكون «إصلاحية» استجابة لطلبات، بل «شروط»، مجموعة دول «سيدر». وفي هذا السياق يُخشى أن يكون هناك من يتعمّد التأخير في الموازنة للتهرب من استحقاق الاصلاح الذي لا بد «من ان يتّصل عميقاً بورشة مكافحة الفساد، وكأنّ المتضررين يعملون على محورين:
ـ المحور الاول، فتح ملفات معقّدة وخلافية للتعمية عن موضوع الفساد ولن يترددوا في طرح ملفات تثير مضاعفات سياسية، وربما غير سياسية، داخلية، مثل ملف هوية مزارع شبعا أخيراً والذي أقام الدنيا ولم يقعدها جدالاً وسجالاً حول لبنانية هذه المزارع من عدمها، واندفاع البعض الى اتهام مثيري هذا الملف بالسعي لتموضع سياسي جديد استعداداً لـ»صفقة القرن» كما قال البعض، أو بسبب خلاف على الترخيص لمصنع على حد قول البعض الآخر.
ـ المحور الثاني، تأخير صدور موازنة إصلاحية مخفوضة العجز، مقرونة بقطوعات الحسابات المالية العامة من عام 2007 حتى العام 2017، وذلك الى أبعد مدى زمني ممكن، لعل تطورات تطرأ وتغيّر في شروط مؤتمر «سيدر» لتسليم لبنان القروض البالغة 11 مليار دولار من دون شرط إجراء إصلاحات مالية تجعل من مكافحة الفساد أمراً لا مفر منه تحت طائلة تعرّض لبنان لأزمة مالية خطيرة، اذ انّ مبلغ الـ11 مليار يمكن في رأي هؤلاء ان يؤمّن للبلد مرحلة من التماسك المالي لسنتين على الاقل، على أمل ان يتم تدبير «سيدر» جديد او مؤتمر مانحين جديد لاحقاً، علماً انّ بعض الخبثاء يذهبون الى حد تمنّي حصول حروب أو مواجهات في المنطقة تجعل موضوع مكافحة الفساد في خبر كان، وتفرض أولويات جديدة لبنانياً وإقليمياً ودولياً.