كتب انطوان فرح في صحيفة "الجمهورية": لا يبدو مشروع موازنة العام 2019 الذي يُفترض أن يكون الوزراء قد درسوه في عطلة عيد الفصح، ويبدأون اليوم مناقشته، بحجم الأزمة القائمة، وهو في أحسن الأحوال مجرّد مخرج لكنه قد لا يلغي المواجهة بين الحكومة والشارع، وحتماً، لا يعالج مشكلة مالية وصلت الى مرحلة متقدمة من التعقيد.
بالمقارنة مع موازنة 2018، يبدو مشروع موازنة 2019 متقدّماً في بعض النقاط، لكنه لا يرتقي الى المستويات المطلوبة في عملية إنقاذ اقتصادي ومالي يُفترض إنجازها بسرعة وثبات قبل الوصول الى اعلان طلب Bailout رسمي له تبعات أصعب وأشد تعقيداً يتخذها من يتدخّل لإنقاذنا، هذا اذا وافق أصحاب القرار في الخارج على هذا التدخّل.
في قراءة أولية في مشروع الموازنة المكوّن من 1200 صفحة، لا حاجة الى الغوص كثيراً في التفاصيل، ويكفي أن نذهب مباشرة الى العناوين والبنود الاساسية لكي نكتشف الحقائق التالية:
اولاً- تبدو البنود الاصلاحية متواضعة جداً، وهي تكاد تنحصر في اجراءات تنظيمية تتعلق بإلغاء امتيازات، بعضها لم يكن منطقياً من الاساس، وبعضها الآخر حان الوقت لالغائه تماشياً مع الوضع المالي للدولة، ولضرورات الإنقاذ. مثل الغاء بعض الإعفاءات التي يتمتع بها النواب او سواهم، أو وقف العمل بالرواتب التي تزيد عن 12 شهراً بصرف النظر عن المسميات. أو تحديد سقف للاجور المرتفعة في القطاع العام او القطاعات الرديفة. كذلك مسألة تعديل نِسَب الضرائب على الدخل، حيث تصل الى نسبة 25% من المداخيل التي تزيد عن 225 مليون ليرة سنوياً. كذلك يمكن إدراج مسألة إخضاع الهبات لرقابة ديوان المحاسبة وفق ما ينص عليه القانون ضمن البنود الإصلاحية. كذلك يمكن اعتبار المادة 40 من قانون الموازنة بمثابة بند اصلاحي موقت لتشجيع المؤسسات على استخدام لبنانيين بدلاً من الاجانب.
ثانياً - فرض رسوم وضرائب جديدة باسلوب خجول لتحاشي التصادّم مع الناس. ويندرج في هذا الإطار موضوع جوازات السفر، وبعض الغرامات والرسوم التي تستوفيها المديرية العامة للأمن العام، وتتعلق بإعلانات الطرق، معاملات نقل كفالة العمّال الاجانب...
وفي المقابل، جرى فرض ضرائب ورسوم جديدة على فوائد الاموال المودعة في المصارف، وعلى الفوائد التي تنتج من سندات الخزينة، وتعميم هذا الوضع على الجميع، بما فيها مصرف لبنان بما سيرفع الإيرادات، حسب التقديرات، بنسبة تقارب الـ 95%. (من 1,342,569 الى 2,516,784 مليون ليرة).
ثالثاً - اسلوب الغش وتجميل الأرقام الذي جرى اعتماده في موازنة العام 2018 مستمرٌ في موازنة العام 2019، سواء من خلال سوء تقدير خاطئ لزيادة الإيرادات التي قد تنتج من رفع الضرائب، في وضع اقتصادي مشلول، أو من خلال خفض اصطناعي للإنفاق من خلال أرقام يتبيّن لاحقاً انّ الدولة مضطرة الى رفعها، مثل موضوع دعم الكهرباء. اذ يشير مشروع الموازنة الى خفض السلفة المخصصة للكهرباء بحوالى 275 مليون دولار عن الإنفاق الذي حصل في العام الماضي. والسؤال كيف سيتم هذا الخفض؟ من خلال خفض منسوب التعدّيات على التيّار مثلا؟ وهل تبيّن فعلاً انّ هذا الموضوع سيؤدي الى خفض بهذا الحجم؟ وماذا عن ارتفاع معدل اسعار الفيول في 2019 عمّا كان عليه في 2018، فكيف سيتم سد هذه الثغرة؟ وهل المقصود خفض ساعات التغذية من دون اعلام الناس بذلك؟
رابعاً - في اسلوب تأجيل المشكلة بدلاً من معالجتها، وتشويه حقيقة ارقام الأنفاق الضرورية. هذا الاسلوب جرى اعتماده في العام 2018، من خلال إعادة جدولة دفع المستحقات على مشاريع قيد التنفيذ. وبذلك تمّ تأجيل الدفع، وجرى شطب الإنفاق من الموازنة لخفض العجز. لكن هذا الاسلوب أدّى الى عرقلة وتأخير في تنفيذ مشاريع يُفترض انّها ضرورية وتدعم الاقتصاد والاصلاح. اليوم تتكرّر هذه العملية التأجيلية الى العام 2020 وما بعده، من خلال تأجيل دفع أموال تستحق في العام 2019.
ولمعرفة حجم هذا الخفض التأجيلي للإنفاق، ينبغي مراجعة لائحة برامج القوانين التي خضعت لإعادة جدولة دفع فواتيرها المستحقة. ويرِد في مشروع موازنة 2019 حوالى 19 برنامجاً لمشاريع يتمّ تنفيذها، وتمّ تأجيل دفع مستحقاتها أو خفضها. ومن خلال عملية حسابية بسيطة، يتبيّن انّ الحكومة تحاول تأجيل دفع حوالى 300 الى 350 مليون دولار في العام 2019، وانّ هذه المبالغ سيتم "دفشها" الى الاعوام المقبلة.
خامساً- اعتماد اسلوب لمرة واحدة في محاولة لزيادة الايرادات، من خلال الإعفاءات على التأخير في دفع الرسوم او الضرائب، أو خفض الغرامات، ومن خلال منح حوافز لتشجيع المكلّفين على تسديد الاموال في العام 2019 بدلاً من إمكانية التأجيل. او من خلال تعديلات تسمح لمرة واحدة بإدخال اموال الى الخزينة، مثل تعديل مواد في قانون السير للسماح للخزينة بالحصول على كل الاموال المستوفاة من غرامات السير.
في المحصلة، يُفترض أن ينخفض العجز في موازنة 2019، حسب أرقام المشروع الوارد الى الحكومة بنسبة 2% قياساً بالناتج المحلي، مقارنة بما كان عليه في 2018. لكن، في الواقع، واذا أضفنا الإنفاق الذي سيحصل نتيجة تقديرات هي أقرب الى التمنيات منها الى الواقع (خفض انفاق الكهرباء مثلاً)، واذا حذفنا ايرادات لن تتحقق (تحفيز تسديد الرسوم والضرائب) واذا استثنينا ما هو مؤجّل (قوانين البرامج واستحقاقات أخرى)، سيتبيّن انّ العجز قد يبقى تقريباً كما كان عليه في العام 2018. والمفارقة هنا، انّ هذا التقشّف الخجول، وتحسين الايرادات المشكوك في ارقامها، لن يعفيا الحكومة والبلد من احتمال نقمة شعبية قد تتم ترجمتها في الشارع. والمصيبة أيضاً، ولو أنّ "ثورة" الناس مُبرّرة، إلا أنّ "الثورة" قد توصل الى نتيجة كارثية على الناس والبلد.