ليس الاستبداد مجرّد سياسة دولة لكنّه ثقافة مجتمع. أو على الأصح، ليس بوسع السلطة السياسية أن تكون سلطة مستبدة إلا حين تكون جزءا من بنيات اجتماعية مستبدة. في هذا المستوى من البنيات تكمن المخاوف وتتجلى الضمانات. وبالمناسبة لا بأس أن نذكر كيف حاول الرئيس الأميركي الأسبق جورج والكر بوش أن يستغل صدمة 11 سبتمبر 2001 لتهديد جودة الديمقراطية الأميركية والقيام بخطوات حاسمة نحو التسلط عبر سن قوانين مثيرة للجدل، من قبيل قانون باتريوت سيء الذكر، لكنه لم ينجح في مسعاه الذي جنّد له العديد من الأصوليين البروتستانت. وهل يصلح الأصوليون لشيء آخر غير تبرير ما لا يُبرر؟ لم ينجح بوش في مسعاه لأنّ الثقافة الديمقراطية راسخة في بنيات المجتمع الأميركي. لكن المهمة نفسها بدأ ينجح فيها فلاديمير بوتين داخل روسيا مستغلا حالة العداء السياسي للغرب، وقد ينجح فيها رجب طيب أردوغان داخل تركيا بعد أن استغل “صدمة الانقلاب” وحالة العداء الثقافي للغرب. لذلك، وكما أن للعداء مستويين؛ مستوى سياسي يسهل تذليله من طرف صناع القرار، ومستوى ثقافي يتطلب تذليله جهدا يطال كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، فثمة أيضا مستويان من مستويات الاستبداد، مستوى المظهر ومستوى الجوهر، بحيث يستدعي كل واحد منهما أسلوبا مختلفا من أساليب النقد والمقاومة:
الأسلوب الأول، هو النقد السياسي المباشر لمظاهر الاستبداد وممارسة الاحتجاج بشتّى الطرق الحضارية، من التظاهر السلمي إلى العصيان المدني. هذا المستوى ضروري عند الحاجة أو عند الضرورة القصوى، وها نحن نحاول ممارسته كما ينبغي، غير أنه لا يكفي لأجل ضمان خروج آمن من بوتقة الاستبداد المغلقة؛ إذ أن الاكتفاء بالنقد السياسي قد يضعنا أمام نقد للاستبداد يعيد إنتاج الاستبداد ولو بصيغ مختلفة، مثلما حدث في العديد من التجارب المغايرة أو المشابهة.
الأسلوب الثاني، هو النقد الثقافي للبنيات الذهنية المنتجة للاستبداد والراسخة في الموروث الفقهي واللاشعور الجمعي لغالبية الشعوب المسلمة: قيم الطاعة والجماعة والولاية والولاء والريع والاتكال. وهي بنيات قد تظل تعتمل داخل خطاب نقد الاستبداد.
المشكلة أنّ الكثيرين، لا سيما في “دول خط المواجهة” مع الاستبداد، قد تذرّعوا بأولوية مستوى المواجهة السياسية المحتدمة مع مظاهر الاستبداد لغاية تأجيل أو إلغاء مستوى المواجهة الثقافية مع جذور الاستبداد، ما قاد إلى إجهاض مشروع التغيير أو إعادة إنتاج الاستبداد. في المقابل هناك من تذرع بأولوية مستوى النقد الثقافي للجذور الكامنة لغاية غض الطرف عن كافة مظاهر الاستبداد السياسي مهما بلغت قسوتها وشراستها.
إن الظواهر السياسية في مستوى الأعيان لهي أعراض للبنى الثقافية الكامنة في الأذهان. وليس يخفى أن في مجال الأمراض الطبية قد تقود بعض الأعراض إلى الوفاة، مثل أعراض ضيق التنفس بالنسبة لأمراض الحساسية مثلا، وهنا تكون مواجهة الأعراض أمرا حيويا، لكن المطلوب من تلك المواجهة أن تكون جزءا من استراتيجية علاجية للمرض حتى تكون فعالة. لذلك يجب أن يكون نقد سياسة الاستبداد داخل السلطة جزءا من استراتيجية نقد ثقافة الاستبداد داخل المجتمع. لا هذا بلا ذاك، ولا ذاك بلا هذا.
بمعنى آخر، جميل أن نقول “لا للطغاة”. وها نحن نقولها بالفعل. بل، لعل مقاومة مظاهر الاستبداد الأشد شراسة واجب أخلاقي على جميع المواطنين. هذا ما نفعله بدرجات متفاوتة ويجب أن نفعله دائما وفي كل الأحوال، كل حسب موقعه وقدراته، لكننا حين نقف عند مستوى النقد السياسي دون أن نكترث بنقد البنيات الثقافية المنتجة للاستبداد فكل ما نفعله وقتها أننا ننتقد الاستبداد بخطاب يعيد إنتاج الاستبداد.
نحتاج إلى ممارسة النقد السياسي بطبيعة الحال، لكننا نحتاج أيضا وفي المقابل إلى نقد خطاب النقد ذاته، وذلك حتى لا يتحول النقد إلى تسلط جديد بدعوى النقد وباسم التحرر، على منوال الثورات التي سرعان ما يصبح لها حماة وحرّاس وروابط لقمع الناس باسمها، وعلى منوال الأحلام “الخلاصية” الكبرى التي سرعان ما تنشئ مخيمات اعتقال ومعسكرات إبادة بدعوى حماية الأحلام العظيمة من المزعجين الذين لا يحسنون الحلم، بمعنى لا يحسنون النوم. الوعي الديمقراطي ليس مجرد وعي خالص ينشأ في الفراغ، بل إنه تمرين دائم ضد الذات أوّلا، ومن أجل الذات ثانيا، إنه جهد تقويمي شاق ضدّ ممارسات السلطة بكل مستوياتها وأبعادها، بدءا من قيم الأبوة وغرائز الفحولة وثقافة الريع، وانتهاء إلى الأحكام السلطانية في الإطار العام.
لا يوجد مواطنون جيدون بل توجد قوانين فعالة. لا يوجد حكام جيدون بل توجد مؤسسات فعالة. لا يمكن التعويل على مفاهيم الزّهد والصلاح والورع والتضحية والنصيحة، أو انتظار المهدي أو الخليفة السادس لتمتلئ الأرض عدلا أو ما شابه ذلك من أساطير الأولين والتي تستهوي الإسلاميين وبعض اليساريين. نحتاج إلى ثقافة المؤسسات، منطق المؤسسات، دولة المؤسسات. وهذا كل ما في الأمر.